السبت، 14 مارس 2020

أول أيام العزل الصحي الاختياري: رسالة إلى العام 2100

ربما لا يقرأ هذه المدونة الكثيرون، ولهذا فأنا لا أكتب لأي جمهور، مما يجعل مهمة الكتابة سهلة قليلًا. حسنًا، ربما يختلف الوضع اليوم: سأتخيل أن أحدهم في العام 2100 يقرأ هذه التدوينة.. هذا بالطبع إن قُدر للبشرية أن تصمد لهذا الوقت.

عزيزي القارئ المستقبلي في العام 2100، أهلًا بك. ربما عليّ التعريف بنفسي، فعلى الأرجح قد متُ منذ سنوات دون أن تسمع عني. أنا طالبة في العشرينات من العمر، مصرية عربية مسلمة. أدرس الآن في بلد بغرب أوروبا، وتحيط بي أجواء تشبه الروايات الديستوبية.

بعد أن أصبحت أوروبا مركزًا لوباء كوفيد-19، الناتج عن فيروس كورونا، أعلن رئيس الجمهورية في محل إقامتي إلغاء المدارس والجامعات إلى أجلٍ غير مسمى، كما نصح بالابتعاد عن أماكن التجمعات والحد من السفر لغير الضرورة. بالطبع، تأثر الجميع بالقرار، فأنا مثلًا اضررت لإلغاء بعض الخطط التي تتضمن سفرًا لمراكز الخطر الحالية.. مما كلفني مبلغًا لا بأس به من المال. أوه، على فكرة، أتمنى أن يكون السفر في العام 2100 قد أصبح أكثر مرونة وأقل تكلفة!

نبذة من خططي الملغاة. (كما ترى، عزيزي المستقبلي، في العام 2020 لا نزال نستخدم الأجندات الورقية لتخطيط يومنا)

اليوم، الرابع عشر من مارس 2020، نبدأ أول أيام العزل الصحي الاختياري، كما يُطلق عليه. ابتعت البارحة ما يكفيني من أساسيات الغذاء لمدة أسبوعين تقريبًا، استعدادًا لفترة غير معلومة من المكوث في المنزل. البروفيسور المسؤول عن دراستي هنا يقول إنه لا يعرف كيف يتصرف (لأول مرة أسمعه يعترف بقلة حيلته)، والناس هنا حذرة، لكنها ليست مصابة بالذعر (بعد).

عزيزي القارئ، في العام 2020 يخرج الناس لممارسة أعمالهم خمس مرات في الأسبوع على الأقل، ثم يخصصون عطلة نهاية الأسبوع للترفيه. لست معتادة على البقاء في حجرتي طوال اليوم، ولكن سأحاول أن أستغل هذه الفرصة للقيام بأنشطة طالما كنت أؤجلها بحجة الدراسة؛ كقراءة الكتب على قائمتي والتواصل مع بعض الأصدقاء القدامى، والكتابة لأشخاص أتخيلهم في المستقبل، مثلك أنت.

لعلك تسأل إن كنتُ قلقة، والإجابة هي نعم ولا. أنا أثق في رحمة الله أولًا وفي قدرة العلم على إيجاد العلاج ثانيًا. إنها مسألة وقت فحسب. ولكني قلقة بشكل أساسي على أهلي في مصر، فبالرغم من أن أوروبا هي مركز الوباء الحالي إلا أن الوضع في مصر قد يكون أسوأ. ربما يكون هناك تعتيم مُتعمد من المسؤلين في مصر، وربما هم  بالفعل يجهلون حجم المشكلة. لا نعرف بعد. بالمناسبة، كيف حال مصر في ثمانين سنة من الآن؟

عزيزي القارئ، كنت أتحدث مع صديقاتي هنا وقلت لهن أني كنت أود لو قضيت فترة العزل هذه مع أسرتي في بيتي بمصر، فردت علي إحداهن بأننا بالفعل كالأسرة هاهنا، وأظن أنها على حق. أنا بالفعل ممتنة لأسرتي الصغيرة هنا في أوروبا، ولم أكن لأصمد كل هذه الأحداث بدونهم. 

عزيزي القارئ، لا أريد أن أكون دراماتيكية، لكن الأوضاع الحالية تجبر المرء على التأمل. إن كان لديك فضولًا حول حياة شابة عشرينية في العام 2020، أريدك أن تعرف أنني في الربع قرن الأول من حياتي قد عشت حياةً حافلة، كما تتخيل، لكنها كانت جيدة حقًا. في العشر سنوات الماضية، تابعت ثورات الربيع العربي، رأيت النجوم من فوق جبل سانت كاثرين، زرت بيت الله الحرام وصليتُ في الروضة الشريفة، مات طائري الأليف المفضل، تخرجت في الجامعة، صنعت أصدقاءًا أصبحوا لي كالأخوة، انتقلت للعيش في قارة أخرى، عملت تحت إشراف مستشارة في وكالة ناسا، صافحت فائزًا بجائزة نوبل، استمعت إلى معزوفة لشوبان في محل ميلاده، جلست في غرفة تغيير ملابس أفضل فريق لكرة القدم في العالم، وفزت بمسابقة طبخ.

ولم تكن تلك حياة سيئة على الإطلاق.


الأحد، 8 مارس 2020

اليوم العالمي للمرأة: مشاهد من أفلام أحبها!

مرحبًا مرة أخرى. يحتفل العالم اليوم، الثامن من مارس، بعيد المرأة، وتختلف مظاهر الاحتفال من بلد للآخر.. هنا في محل اقامتي مثلًا دُعيت للمشاركة في تظاهرات مناهضة للعنف ضد المرأة، وفي بلدان أخرى يُخصص يوم التاسع من مارس إجازة رسمية لكل النساء العاملات. 

أحب الأفلام التي تتناول قضية المرأة. من أفلامي المفضلة في هذا النوع هي التي تتناول حياة المرأة الطموح الذكية، التي يحاول المجتمع أن يفرض عليها قالبًا لا يناسبها. وسواء كنتِ امرأة أو كنت رجلًا، هذه مجموعة من أفلامي المفضلة التي أعتقد أن على الجميع مشاهدتها.

1. An Education

شاهدت هذا الفيلم لأول مرة عندما كنت في الثانوية، أي في نفس عمر البطلة، وشاهدته مرة أخرى السنة الماضية كامرأة ناضجة (تقريبًا؟)، وفي كل مرة ينجح في تثبيت رسالة قوية: على الفتاة أن تكون لنفسها كل شيء. لن يأت فارس على حصان أبيض ليحقق أحلامها ويمنحها سعادة أبدية.
 في هذا الفيلم، تقع البطلة (كاري موليجان) في حب الرجل الخطأ. وكما هو متوقع في مثل هذه الحالات، بالطبع، تنقلب حياتها رأسًا على عقب؛ فبعد أن كانت طالبة مجتهدة تحلم بالالتحاق بأكسفورد، تتحول إلى متمردة ترغب في الاحتفال والرقص والسفر فحسب. هذه واحدة من الحوارات العبقرية في الفيلم، حيث تواجه ناظرة المدرسة بتمردها على النظام الأكاديمي وعلى الحياة التقليدية بشكل عام: 


2. The Intern

في إطار كوميدي لطيف، أقل دراماتيكية من الفيلم السابق، تلعب (آن هاثاواي) دور مديرة ناجحة لشركة ناشئة، وأم وزوجة مُحبة. توظف الشركة رجلًا متقاعدًا (روبرت دي نيرو)، فتنشأ صداقة لطيفة بين المديرة والموظف الجديد. الرسالة النسوية هنا تتجلى في هذا المشهد: تكتشف آن أن زوجها يخونها. وكعادة النساء في حالات الخيانة، تبدأ في إلقاء اللوم على نفسها، فتظن أن نجاحها المهني قد أدى للجوء زوجها للخيانة في سبيل إثبات رجولته. تفكر آن في التخلي عن نجاحها المهني في سبيل إصلاح الخطأ الذي ارتكبه زوجها، وهنا يمنحها (دي نيرو) رسالة ينبغي على كل امرأة أن تسمعها.


3. Mona Lisa Smile

لا يمكن أن نتحدث عن الأفلام النسوية بدون أن نذكر رائعة (جوليا روبرتس). في هذا الفيلم، تلعب جوليا دور أستاذة لتاريخ الفنون، تقبل وظيفة في كلية مرموقة للفتيات. تحاول جوليا أن تلهم طالباتها بأن يكون لهن طموح لخوض حياة استثنائية، بدلًا من الاكتفاء بخدمة زوج وتربية أبناء. (عليّ أن أوضح هنا: شخصيًا، لا أجد مشكلة في كون طموح بعض النساء ينحصر في الجانب العائلي والشخصي، طالما كان ذلك الطموح نابعًا من رغبتها هي. ولكني مع ذلك أعترض على رؤية المجتمع للمرأة ذات الطموح العملي كمتمردة على منظومة الزواج والتقاليد الأسرية). بالإضافة إلى ذلك، يتناول الفيلم أيضًا ديناميكية العلاقات بين الفتيات واختلاف وجهات نظرهن في هذا السن.
في هذا المشهد، نرى كيف تكون أكبر عدو للمرأة هي امرأة أخرى. من أعظم لقطات الفيلم عندما تواجه الأستاذة طالباتها، أذكى طالبات البلد، الذين لم يتقبلن رسالتها بشكل جيد:



4. الباب المفتوح

الباب المفتوح هو فيلم مصري مبني على رواية رائعة للكاتبة لطيفة الزيات. لما شفت هذا الفيلم لأول مرة وقرأت الرواية، أدهشتني كمية الأفكار التقدمية التي ناقشها في تلك الفترة من تاريخ مصر. الفيلم والرواية يطرحان قضية تمكين المرأة وتحرير الأمة في نفس الوقت، كم تمنيت لو كنت قد عاصرت تلك الفترة!
من أروع مشاهد الفيلم والرواية هو ذلك الخطاب الذي أرسله حسين لليلي من الخارج، ليؤكد لها إيمانه بها، وأن حبه لها لا يعني فقدانها لحريتها. هذا أيضًا من الأفلام التي على كل فتاة مشاهدتها.


لقراءة الخطاب نصًا: اضغط هنا.

أتمنى لكم يومًا سعيدًا ومشاهدة ممتعة!

الأربعاء، 19 فبراير 2020

عالم جديد شجاع

"ما فائدة الحقيقة أو الجمال أو المعرفة عندما تنهمر قنابل الجمرة الخبيثة فوق رأسك؟"، يتساءل ألدوس هكسلي في روايته الديستوبية الشهيرة عالم جديد شجاع.



يمر بذهني نفس التساؤل وأتذكر أحداث الرواية بينما أقف في المطر، مطأطأة الرأس، منتظرة زميلتي بينما تشتري طلباتها من السوبرماركت. السماء تمطر بعنف اليوم ومزاجي معتل، تمامًا كالطقس أو ربما بسببه. حذائي مبتل وفقدت أحساسي بأطراف أصابع قدميّ. كان يومًا طويلًا فحسب، وكنت أشتاق للشمس. شمس مصر تحديدًا، وكأنما لا توجد الشمس في غيرها.
ثم أتذكر أيضًا، بدون سبب واضح، مقولة بطل الرواية في نهايتها: "أنا لا أريد الراحة. أريد أن أعرف الله. أريد الشِعر، أريد الخطر الحقيقي، أريد الحرية، أريد الخير، أريد الخطيئة. أنا أطالب بحقي في أن أكون تعيسًا". 

ثم تقترب مني عجوز لطيفة بابتسامة تذكرني بجدتي - رحمها الله. لا يبدو أنها تجد مظهر حجابي غريبًا على نقيض أهل البلد هنا، فتشير لي أن أقترب. أحاول أن أقول لها إني لا أتكلم البولندية؛ لكن سرعان ما أفهم ما تريد أن تقوله على أي حال: تريدني أساعدها في وضع "تربون" خفيف على شعرها الفضي؛ في محاولة لحماية تصفيفة شعرها من المطر. هذا أيضًا يذكرني باهتمام جدتي بأناقتها. أستغرب طلبها لوهلة، لكن بعد أن أقترب منها، أرى كيف ترتعش يداها. كانت المسكينة تكافح لتغطية رأسها: مُهمة أنفذها أنا في بضع ثوان. بعد أن أساعدها في المهمة، تبتسم لي تلك الابتسامة التي تذكرني بجدتي مرة أخرى، وفجأة يصبح الجو أكثر دفءًا، ولا يزعجني المطر كثيرًا.

ربما لا نفع من الحقيقة والجمال والمعرفة بينما ينهار العالم من حولنا. ربما لا ضرورة في مطالبة المرء بحقه في التعاسة. ربما كل ما يسعنا تقديمه لبعضنا البعض هو بعض التعزية، ليصبح فناؤنا حدثًا أقل ديستوبيّة.

كتب في وارسو، أكتوبر 2019.

الاثنين، 3 فبراير 2020

ربما عليك التحدث إلى شخص ما

الكتاب: Maybe You Should Talk to Someone 
المؤلفة: لوري جوتليب
اللغة: الانجليزية
التقييم: 5/5


قال عالم النفس السويسري كارل يونج: "الناس على استعدادٍ لفعل أي شيء على الإطلاق، مهما كان سخيفًا؛ لتجنُب مواجهة أنفسهم". ومن هنا يمكنني القول أن هذا الكتاب هو سلسلة مواجهات للنفس. لم أتوقع أن يعجبني لهذا الحد (بصراحة، توقعت أن أجد سخافات التنمية الذاتية التي يحبها بعض الأطباء النفسيين)، وبالطبع سعيدة لقراءته في وقت حاجتي له.  



لوري جوتليب هي طبيبة نفسية في الأربعينيات. ينقلب عالمها رأسًا على عقب بعد ما تركها حبيبها فجأة وبدون مقدمات، فبدلًا من التخطيط لحفل زفاف معًا، عليها الآن التخطيط لمستقبل مجهول وحدها. بعدما فشلت في تخطي الأمر كتجربة عاطفية غير موفقة فحسب، تجد جوتليب نفسها في حاجة إلى التحدث إلى شخص ما، وهذا يعني شخصًا محترفًا. فماذا يحدث عندما تذهب طبيبة نفسية لتلقي العلاج النفسي؟

"لا يمكننا التغير بدون تذوق مرارة الفقد، ولهذا يقول الكثير أنهم يريدون أن يتغيروا، لكن مع ذلك يظلون كما هم".

من خلال فصول الكتاب، لا نتابع فقط تطور علاج لوري، بل نرى أيضًا لمحات من حياة مرضاها. هناك شخص مصاب باضطراب الشخصية النرجسية، وأخرى حديثة الزواج تحارب سرطانًا مميتًا، وشابة عشرينية تائهة بين الكحول والرجال السيئين، وعجوز سبعينية تبحث عن الحب وأحيانًا تهرب منه (وتريد الانتحار أيضًا بالمرة). يا لها من مجموعة! يمكن القول أن قصة لوري نفسها هي أقل تلك القصص إثارة للاهتمام!


"من الأشياء التي لا يحب الناس التفكير فيها هي أن المرء يمكن أن يفعل كل شيء على وجه الصواب: في الحياة أو في العلاج، ومع ذلك تجري الأمور بشكل سيء. وعندما يحدث ذلك، يمكنك فقط التحكم في رد فعلك تجاه هذا الموقف، بطريقتك أنت، لا بالطريقة التي يظن الناس أنها الصواب."

عبر فصول الكتاب، نشاهد تطور الشخصيات الأساسية. يصبح الرجل النرجسي أكثر تعاطفًا مع أحبائه ومع لوري نفسها، وتنكشف جوانب من شخصيته وماضيه شيئًا فشيئًا لنرى أن شخصيته المتغطرسة هي غطاء لماضِ قاس.

تصوري لشكل الشخصية. لا أعرف لماذا أراه في ذهني رجلًا أصلع من أصول روسية!

بالمثل، تتعامل مريضة السرطان مع مرضها بشكل أكثر وعيًا. هناك كلمة في اللغة الانجليزية احترت طويلًا في ترجمتها: grace، القادمة من اللاتينية gratus (قد تترجم إلى الفضيلة أو الشرف أو السمو عن كل ما هو دنيء، لكن ما زلت لا أرى هذه الترجمات كافية). يمكن القول أن المريضة هذه هي تجسيد لمفهوم الـgrace، وبالنسبة لي كانت هي الشخصية الأكثر عمقًا في الكتاب. 

"عندما ينهار الحاضر، ينهار معه المستقبل الذي ربطناه بالحاضر. وانهيار المستقبل هو أعظم النهايات المفاجئة جميعًا. لكن إذا قضينا حاضرنا في محاولة إصلاح الماضي أو التحكم في المستقبل، سنظل عالقين في مكاننا، في ندم أبدي".

أما الشابة العشرينية، فتتعلم مواجهة نفسها بمشكلتها مع الكحول، كما تتعلم سبب انجذابها لرجال غير مناسبين.

"تعاطف الأحمق هو تجنب مناقشة الأمور مع الآخر من أجل مراعاة مشاعره، مع أن الأمور بالفعل تحتاج للمناقشة، وهنا يصبح تعاطفك مضرًا أكثر من صراحتك".

أما العجوز السبعينية، فتتعلم أخيرًا أن تسامح نفسها على ما صدر منها من أخطاء في الماضي، وأن تفتح أبواب قلبها - مرة أخرى وللأبد - للحب، بكل صوره. 

تقول العجوز السبعينية في الكتاب: "It ain't over till it's over."، وهو ما يذكرني باقتباس لتشيخوف (بالطبع. ذاك الروسي الوسيم مرة أخرى!) من رواية رجل مجهول:
 "سوف نحيا! الشمس لا تشرق في اليوم مرتين، والحياة لا تعطى مرتين.. فلتتشبث بقوة ببقايا حياتك ولتنقذها!"
الموسيقى المصاحبة:

كتب في برشلونة، إسبانيا. فبراير 2020

الثلاثاء، 24 ديسمبر 2019

سيكون هذا مؤلمًا: مراجعة


This Is Going to Hurt: الكتاب 
المؤلف: آدم كاي
اللغة: الانجليزية
التقييم: 4/5


43562724. sy475

أرهقني هذا الكتاب كثيرًا لدرجة أنني لا أعرف حتى من أين أبدأ. حسنًا، هذا الكتاب هو مذكرات طبيب بريطاني صغير السن يتخصص في أمراض النساء والتوليد، ويعمل في هيئة الخدمات الصحية الوطنية في بريطانيا. يصحبنا آدم كاي في رحلته المهنية منذ تخرجه في كلية الطب وحتى يوم قراره بترك المهنة. وكما هو متوقع من اسم الكتاب، لم تكن الرحلة سعيدة تمامًا. 

لستُ طبيبة ولم أحلم يومًا بالطب كمهنة، وليس لدي أي أصدقاء من فئة الأطباء. لذلك كان الكتاب بمثابة نافذتي إلى عالم المستشفيات والأطباء، عالم ساعات العمل الطويلة والأعصاب الفولاذية. ظروف الكاتب ومعاناته في عنبر الولادة لا تنطبق فقط على أطباء بريطانيا والغرب، بل أظن أن الوضع هو ذاته - أو ربما أسوأ - في بلادنا. 

في اليوم الواحد يمر على آدم كاي مرضى خفاف الظل وآخرون مزعجون أو قساة. هناك حالات غريبة - مقززة تمامًا - وحالات أخرى عادية. يختلف المرضى أيضًا في نظرتهم لإقامتهم في المستشفى ويختلفون في تحملهم للألم وإلى آخره. الكتاب ببساطة هو مجموعة حكايات عن أولئك المرضى، بعضها طريف والبعض الآخر مؤلم ومؤثر. 

"الشيء الآخر الذي لاحظته هو أن رغم همومها العديدة، لم يكن أي منهم متعلقًا بشخصها. كانت دومًا قلقة بشأن أطفالها، وزوجها، وأختها، وأصدقائها. ربما كانت هي تعريف الشخص الطيب."

ما أعجبني في الكتاب هو أنه رغم لهجته الساخرة إلا أنه حقيقي. كل تلك القصص هي أحداث حقيقية لمرضى حقيقيين. ربما كانت الطريقة الوحيدة للتغلب على صعوبة المهنة هي عبر السخرية. بالإضافة إلى ذلك، يعمل الكتاب كرسالة قوية ضد أولئك - في المملكة المتحدة وغيرها - من يتهمون أطباء المستشفيات الحكومية بالجشع والتقصير، وهي ادعاءات انتشرت في السنين القليلة الماضية. 

ما لم يعجبني - ولعلها مشكلتي أنا وليست مشكلة الكتاب - هو الوصف الدقيق الـgraphic للإصابات والأمراض. في كثير من الأحيان اضطررت لتخطي أجزاء أو التوقف عن القراءة تمامًا بسبب بشاعة بعض الإصابات. أتذكر أنني كنت أقرأ في الباص العام عندما لاحظ أصدقائي وجهي الممتقع! 

اشتريت هذا الكتاب من متجر الكتب TheBooks.pl الواقع في مدينة وارسو. كل الشكر للمالك على حسن استقباله. يمكنكم زيارة موقعهم الإلكتروني هنا: https://thebooks.pl/

الثلاثاء، 3 ديسمبر 2019

في رثاء صالح علماني

ولد صالح علماني لأبوين فلسطينيين في مدينة حمص السورية في عام 1949. انتقل في شبابه إلى برشلونة لدراسة الطب، لكنه سرعان ما تحول لدراسة الصحافة. أمضى سنوات شاقة أثناء دراسته في إسبانيا نظرًا لحاجته المادية، فكان يعمل بجانب دراسته. وفي برشلونة، نصحه صديق بقراءة "مائة عام من العزلة"، فسحره عالم جابرييل جارسيا ماركيز الفاتن، ومن هنا بدأت قصته مع أدب أمريكا اللاتينية.



"إنني أؤمن بأنه توجد فرص في الحياة يتوجب علينا فيها الانقياد لتيار ما يحدث، كما لو أننا نفتقر إلى القوة اللازمة للمقاومة، ولكننا نكتشف فجأة أن النهر قد تحول لمصلحتنا، ولا ينتبه إلى ذلك أحد سوانا. وقد يظن من ينظر إلينا أننا مشرفون على الغرق، في حين أن مركبنا يكون أكثر ثباتًا من أي وقت آخر. عسى أن يكون الوضع الذي نحن فيه واحدة من هذه الحالات."
جوزيه ساراماجو، الكهف. ترجمة: صالح علماني

قرر صالح أن يترجم مائة عام من العزلة، وبالفعل ترجم فصلين منها قبل أن يتركها لانشغاله بترجمة قصص قصيرة لماركيز. نشر بعد ذلك ترجمته للرواية القصيرة "ليس لدى الكولونيل من يكاتبه"، التي حازت على إعجاب النقاد.

وبالرغم من أن صالح كان يريد نشر روايته الأولى، إلا أن الثناء الذي حازت عليه ترجماته دفعه إلى الانخراط في الترجمة بدلًا من التأليف، فيذكر أنه قال: "أن تكون مترجمًا مُهماً أفضل من أن تكون روائيًا سيئًا". ومعه حق بالطبع.

عاد بعد ذلك إلى سوريا واستمر في نشر ترجماته للأدب اللاتيني والبرتغالي، فقدم لنا ما يزيد عن مائة عمل، تجدون الكثير منها في سلسلة الجوائز من الهيئة المصرية العامة للكتاب.


يرى صالح أن الصعوبة في ترجمة الأدب اللاتيني تكمن في مدى اختلاف اللهجات بين دول أمريكا اللاتينية - (وأنا أتفهم معاناته تمامًا، حيث أعمل يوميًا مع أربعة زملاء يتحدثون الإسبانية.. بلهجات مختلفة!)، ولكنه يرى أن المترجم الجيد هو من يجيد استيعاب النص والمعاني، فالمترجم موجود في أعماله وهو شريك للكاتب في العمل، على حد تعبيره.

"ولحسن الحظ أن الكتب موجودة. ويمكن أن ننساها في خزانة أو صندوق، أو نتركها للغبار والعثة، أو نتركها في عتمة الأقبية، يمكن لنا ألا نمر عليها بعيوننا ولا نلمسها لسنوات وسنوات، لكنها لا تهتم بذلك كله، وتنتظر بهدوء منطبقة على نفسها كيلا يضيع شيء مما تحتويه في داخلها."
جوزيه ساراماجو، الكهف. ترجمة: صالح علماني

انتقل صالح علماني إلى إسبانيا بعد اندلاع الحرب السورية، فمنحته الحكومة الإسبانية الإقامة تكريمًا لجهوده في نقل الأدب اللاتيني للعربية. وفي مدريد صباح اليوم، انتقل صالح علماني إلى رحمة الله عن عمر يناهز السبعين عامًا. نسأل له الرحمة والمغفرة، وأن يجازيه الله خيرًا على ما أفاد به المكتبة العربية.

"وعندئذ أحس بأنه متعب جدًا، ليس لأنه أجهد دماغه كثيرًا، وإنما لتأكده من أن العالم هكذا، وأن الأكاذيب كثيرة والحقائق غير موجودة أو قليلة إلى حد لا يتاح لنا الوقت للتفكير فيها على أنها حقيقة محتملة؛ لأنه علينا أن نتحرى أولًا إذا لم تكن كذبة محتملة."
جوزيه ساراماجو، الكهف. ترجمة: صالح علماني

الاثنين، 18 نوفمبر 2019

مراجعة كتاب "شيفرة بلال".. لأحمد خيري العمري

Displaying Photo note


  • الكتاب: شيفرة بلال
  • المؤلف: أحمد خيري العمري
  • اللغة: العربية
  • التقييم: 3/5


وأخيرًا أنهيته! 

تلقيت هذا الكتاب هدية وداع بمناسبة سفري إلى الخارج، فصحبني في رحلتي عبر مصر وثلاث دول أخرى. استمتعت به نوعًا ما رغم سهولة التنبؤ بالحبكة والنهاية المتوقعة، لكن لا أظن أني سأقرأ لأحمد خيري العمري مرة أخرى عما قريب.


ما الذي يجمع طفل أمريكي في الثالثة عشرة من العمر يقتله السرطان ببطء، وأكاديمي ملحد من أصل عربي؟ الإجابة بسيطة: بلال ابن رباح، مؤذن الرسول!

هذه هي قصة معاناة فتى مع سرطان ينهش جسده، ومعاناة رجل مع ضلال ينهش روحه، ومعاناة أم لا حول لها ولا قوة، تشهد موت ابنها ببطء. ببراعة شديدة يجد الكاتب رابطًا بين قصص هؤلاء جميعًا وقصة بلال ابن رباح، الذي يجد الحرية أخيرًا في رسالة الإسلام. ولكن الحرية لا تعني بالضرورة التخلص من العبودية؛ وهنا يكمن الرابط.


كُتبت الرواية بأسلوب وجهات النظر - POV، أي أن كل فصل من فصول الرواية يحكي تطور الأحداث من منظور شخصية مختلفة. أحب هذا الأسلوب لأنه يحد من بعض الرتابة والملل؛ وأعتقد أنه يُسهل للكاتب الانتقال من حدث للآخر بسلاسة.

 لعل أكثر الشخصيات التي تعاطفت معها هي لاتيشا، أم الفتى. أعجبتني قوتها وصمودها رغم كل ما مرت به: زوج يتركها بعد ولادة ابنهما، مدير عمل يكرهها، وابن يموت. لا شك في أنها تمثل شريحة كبيرة من نساء عالمنا اليوم.

من منظور لاتيشا:
"لدينا أوهام عن قوة الرجل.
لو كان قويًا فعلًا، لاختاره الله للإنجاب!
لكني لم أكن أحتاج إلى قوة رجل بالضبط. كنت أحتاج إلى الرفقة في هذا الدرب. الرفقة على الأقل.."

أما الفتى، فلعل أهم ما كتبه هو رسائله لأبيه الذي لم يعرفه قط. هل من المفترض أن يكرهه، أم يحبه، أم يشعر بالفضول تجاهه؟ كيف من المفترض أن يشعر المرء عندما يخذله أهم الأشخاص في حياته؟

على كل حال، الرواية لطيفة وسهلة، خاصةً للمبتدئين في القراءة. بها كم لا بأس به من المعلومات حول شخصية بلال ابن رباح. لم أعطها أكثر من ثلاث نجوم لأن الحبكة ضعيفة نوعًا ما بحيث يمكن التنبؤ بالنهاية منذ الفصول الأولى.

الأحد، 10 نوفمبر 2019

خطاب قائد قبيلة من الهنود الحمر لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية


كنت أتناقش مع زميلة لي قضت الست سنوات الأخيرة في الولايات المتحدة. بدافع فضولي عن السكان الأصليين لأمريكا الشمالية، "الهنود الحمر"، سألتها عن أوضاعهم هناك، فقرأت عليّ هذا الخطاب التاريخي للقائد سياتل. 

القائد سياتل هو رئيس قبيلة من الهنود الحمر عاشت على جزيرة بوجيت. كان سياتل قائدًا شجاعًا، واحتفظ بعلاقات طيبة مع السكان البيض للولايات المتحدة. النص التالي هو خطاب من المعتقد أن القائد سياتل قدمه في ديسمبر 1854. مع ذلك، وجب التنبيه أن هناك الكثير من الجدل حول هذا الخطاب؛ حيث أنه طُبع لأول مرة وانتشر في سبعينات القرن الماضي. لذلك، يرجح الكثير من المؤرخين أن الخطاب هو من نسج خيال أحد المدافعين عن القضايا البيئية. على كل حال، وجدته جميلًا ومؤثرًا، فقررت أن أنقله لكم:

"يرسل لنا الرئيس من واشنطن مُعلنًا رغبته في شراء أرضنا. لكن كيف يمكنك بيع أو شراء السماء؟ أو الأرض؟ تلك الفكرة غريبة بالنسبة لنا. إذا كنا نحن لا نملك طراوة الهواء ولا بريق المياة؛ فكيف يمكنه شرائهما؟

بحيرة مورسكي أوكو، سلسلة جبال التاترا، على الحدود البولندية - السلوفاكية

إن كل جزء من الأرض مُقدس لشعبي. كل إبرة لامعة لأشجار الصنوبر، كل ساحل رملي، كل حبة من الندى في الغابات المظلمة، كل روضة زاهية، وكل حشرة طنانة. جميعم مقدسون في ذاكرة وتجارب شعبي.

نحن نعرف العصارة التي تجري في الأشجار كما نعرف الدم الذي يجري في عروقنا. نحن جزء من الأرض، وهي جزء منا. الزهور العطرة هي أخواتنا. الدب، الغزال، النسر العظيم، كل هؤلاء هم أخواتنا. القمم الصخرية، والمروج الندية، وحرارة جسد المهر الصغير، والإنسان: جميعهم ينتمون إلى نفس العائلة.

المياة اللامعة التي تجري في الجداول والأنهار ليست مجرد مياة، بل هي دماء أجدادنا. إن بعنا لكم أرضنا، يجب أن تتذكروا أنها مقدسة. كل انعكاس لامع في المياة العذبة للأنهار يحكي أحداثًا وذكريات من حياة شعبي. صوت خرير الماء هو صوت همس جدي.

الأنهار هي أخواتنا، وهي تطفئ ظمأنا. هي من تحمل قواربنا وتغذي أبنائنا. لذا، فعليكم أن تقدموا للأنهار نفس العطف الذي تقدمونه لأخواتكم. 

إن بعنا لكم أرضنا، تذكروا أن الهواء ثمين بالنسبة لنا، وأنه يشارك روحه مع كل صور الحياة التي يغذيها. الريح التي أعطت جدنا أول أنفاسه، هي نفسها التي استقبلت آخر تنهيداته. الريح كذلك هي من أعطى لأطفالنا روح الحياة. إن بعنا أرضنا، يجب أن تحفظوها حيث تكون مقدسة، فتظل مكانًا يلجأ له الإنسان ليستمتع بطعم الريح المحلاة بأزهار المروج.

هل ستعلموا لأبنائكم ما علمناه لأبنائنا؟ أن الأرض هي أمنا؟ ما يقع على الأرض يقع على جميع أبنائها. 

هذا هو ما نعرفه: الأرض لا تنتمي للإنسان؛ بل هو من ينتمي إليها. كل شيء متصل بالآخر، كالدم الذي نشترك فيه جميعًا. لم يحيك الإنسان نسيج الحياة، بل هو مجرد خيط رفيع فيه. أيا ما يفعله في النسيج، يقع عليه ذاته في نهاية الأمر. 
خريف وارسو


شيء واحد نعرفه: إلهنا هو أيضًا إلهكم. الأرض ثمينة لديه، وإيذاؤها يعني ازدراء خالقها. 

إن مصيركم لغز بالنسبة لنا. ماذا سيحدث عندما يُذبح كل الجاموس؟ عندما تُروّض كل الأحصن البرية؟ ماذا سيحدث عندما تزدحم الأركان السرية للغابة بروائح الناس؟ عندما يُحجب منظر التلال بأسلاك الهاتف؟ إلى أين ستذهب الأدغال؟ ستزول! إلى أين ستذهب النسور؟ سترحل! وماذا يعني عندما نودع المهر السريع ونبدأ ممارسة الصيد؟ سيعني ذلك نهاية العيش، وبداية محاولة النجاة.

عندما يرحل آخر رجل من الهنود الحمر مع زوال هذه الحياة، وعندما تصبح ذكراه محض ظل سحابة عابرة فوق المروج، هل ستبقى هذه الشواطئ والغابات؟ هل سيبقى أي جزء من روح شعبي؟

نحن نحب هذه الأرض كما يحب الرضيع نبض قلب أمه. لذلك، إن بعنا لكم أرضنا، أحبوها كما أحببناها. اعتنوا بها، كما اعتنينا. احفظوا في عقولكم ذكرى الأرض كما تسلمتوها. احفظوا الأرض من أجل كل أبنائها، وأحبوها، كما يحبنا الله.

بما أننا نحن جزء من الأرض، كذلك أنتم أيضًا. هذه الأرض غالية لدينا. هي أيضًا غالية لديكم.

هناك شيء واحد نعرفه: هناك إله واحد. لا إنسان - لا من الهنود الحمر ولا من البيض - يمكنه العيش وحيدًا. نحن كلنا أخوة في نهاية المطاف."

الاثنين، 30 سبتمبر 2019

وعندما أموت، ادفنوني في أوكرانيا الخضراء

مرحبًا مرة أخرى. في ختام محاضرة اللغة البولندية الأسبوع الماضي، أسمعتنا الأستاذة أغنية شعبية من التراث البولندي. الأغنية بالغة الرقة والجمال، أردت أن أنقلها لكم هنا.

في الحقيقة، مصدر الأغنية غير معلوم؛ فهي تتواجد في تراث بولندا، أوكرانيا، التشيك، سلوفاكيا، وبيلاروس. تحكي الأغنية عن جندي يودع حبيبته الأوكرانية، وكذلك أوكرانيا نفسها، للمرة الأخيرة، ويطلب أن يُدفن هناك عندما يموت.



يشاع أن الأغنية كتبت في منتصف القرن التاسع عشر، وقد اعتاد الجنود البولنديون أن يغنوها في الحرب البولندية - السوفييتية، وكذلك الحرب العالمية الثانية. إليكم كلمات الأغنية بالعربية:

هناك، من مكان ما أعلى المياة السوداء
يعتلي شاب من القوزاق جواده
بأسى، يودع فتاته
وبأسى أشد يودع أوكرانيا

مرحى، مرحى، مرحى يا صقور!
طيروا عاليًا عبر الجبال والغابات والأنهار والوديان
رني، رني، رني يا أجراسي الصغيرة
يا منحدري ويا عصفوري الصغير

هناك الكثير من الفتيات في العالم
لكن أفضلهن في أوكرانيا
هناك، تركت قلبي
مع فتاتي المحبوبة

مرحى، مرحى، مرحى يا صقور!
طيروا عاليًا عبر الجبال والغابات والأنهار والوديان
رني، رني، رني يا أجراسي الصغيرة
يا منحدري ويا عصفوري الصغير

حزن، حزن، حزن لتلك الفتاة
حزن لأوكرانيا الخضراء
حزن، حزن، القلب يبكي
لن أراها مرة أخرى

مرحى، مرحى، مرحى يا صقور!
طيروا عاليًا عبر الجبال والغابات والأنهار والوديان
رني، رني، رني يا أجراسي الصغيرة
يا منحدري ويا عصفوري الصغير

خمر، خمر، أعطوني خمرًا
وعندما أموت ادفنوني
في أوكرانيا الخضراء
مع فتاتي العزيزة

مرحى، مرحى، مرحى يا صقور!
طيروا عاليًا عبر الجبال والغابات والأنهار والوديان
رني، رني، رني يا أجراسي الصغيرة
يا منحدري ويا عصفوري الصغير




السبت، 28 سبتمبر 2019

ما أتحدث عنه عندما أتحدث عن الجري

يقول هاروكي موراكامي أنه لم يُخطط قط ليصبح كاتبًا. كل ما حدث هو أنه كان يشاهد مباراة بيسبول ذات يوم، وفجأة اجتاحته رغبة عارمة في أن يكتب رواية. ذهب بعد المباراة لشراء أوراق للكتابة وقلم حبر؛ وعاد إلى منزله. أمضى الشهور القليلة التالية في كتابة روايته الأولى، ثم تغير كل شيء. في واحد من الكتب الأقرب لقلبي على الإطلاق، "ما أتحدث عنه عندما أتحدث عن الركض"، يقول موراكامي: "لم أبدأ في ممارسة الركض تلبيةً لطلب أحد. تمامًا كما لم أبدأ في كتابة الروايات تلبيةً لطلب أحد. في يوم من الأيام، قررت فجأة أنني أريد أن أكتب. وفي يوم من الأيام، قررت أن أجري. ببساطة لأنني أريد ذلك. لطالما فعلت أي شيء تمليه علي إرادتي في الحياة. قد يمنعني الناس، وقد يحاولون إقناعي بأنني على خطأ، لكنني لن أتغير." 




أعتقد أن هذا ما حدث معي بالضبط، لكن مع رياضة الركض، ليس مع الكتابة بالطبع. لم أكن شخصًا رياضيًا قط. في سنوات المراهقة، لعبتُ الهوكي وكرة السلة؛ لكن كانت تزعجني الطبيعة العنيفة لتلك الألعاب. كنت أجد المتعة في سرعة الحركة التي تتطلبها اللعبتان، لكن في نفس الوقت كنت أكره احتكاكي باللاعبين الآخرين؛ أكره انتزاع الكرة بالقوة من إحداهن أو أن أصطدم بها عمدًا فأطرحها أرضًا لأفوز. أعتقد أن الأمر لم يتماش مع طبيعتي فحسب؛ فتوقفت عن اللعب. كان ذلك منذ عشر سنوات تقريبًا. ثم جاءت لحظة كلحظة موراكامي. تمنيت ذات أمسية هادئة لو أنني خرجت من شقتي وانطلقت. لا يهم إلى أين أو أي مسار أتبع؛ كانت ساقاي تطوقان للانطلاق فحسب. في المساء التالي، ذهبت إلى متجر رياضي واشتريت بذلة رياضية وحذاء مخصص للجري. 


بعد ذلك بأسبوع، على كورنيش الإسكندرية في شمس الصيف الحارقة، أطلقت العنان لساقاي لأول مرة منذ سنوات. ركضت ما يقرب من ثلاثة كيلومترات في نصف ساعة تقريبًا. كان الألم في ساقاي لا يحتمل، واحمرّ وجهي بفعل الشمس كأنما أصبت بالحساسية. لا شك في أنني بدوت في حالة مزرية، لكن كنت أشعر كأنني أحلق. لم أفكر في أي شيء: لا في نفسي ولا في الأشخاص، ولا في المستقبل أو الماضي، ولا حتى في الأغنية التي أسمعها. كان عقلي كصفحة بيضاء. (علماء النفس يسمون هذه الحالة Psychological flow - عندما يكون الشخص منسجمًا تمام الانسجام في نشاطٍ يفعله لدرجة أنه يفقد إحساسه بأي شيء آخر، كأنما ينعزل عن العالم). كان يركض معي بالمصادفة شاب لطيف، نشأت بيننا صداقة صامتة غير مصرحة، فكان يسرع خطاه عندما أتخطاه ليستعيد الصدارة أحيانًا، وأحيانًا يعدو بخطوات أكثر بطءً عندما يسبقني، كأنما يحثني على المضي قدمًا. 
  
الحديقة التي أمارس فيها الجري الآن


الآن، أركض لمدة ساعة تقريبًا مرة أو مرتين كل أسبوع، وأحقق مسافة تتراوح ما بين 4 إلى 7 كيلومترات. عادة ينضم إلى صديق أو اثنين، وأجد أن آدائي عندما أجري برفقة آخرين (خاصة إذا كانوا أكثر تمرسًا) يكون أفضل في معظم الوقت. منذ انتقلت إلى أوروبا أصبح الركض أكثر صعوبة، فالمناخ هنا بارد والتنفس السريع يصبح مؤلمًا في وجود الرياح، والمطر يسقط أغلب الأيام، مما يجعل الحياة مزعجة قليلًا. لا أعتقد أنني على استعداد لجري مسافة ماراثون عما قريب (مسافة الماراثون 42.195 كيلومتر)! لكن ربما أشارك في سباقات النصف-ماراثون. من يدري!

في الختام، ها هو واحد من اقتباساتي المفضلة من كتاب موراكامي، من ترجمتي الخاصة (أعتذر لبشاعة اللغة وضعف قدراتي التعبيرية). حقًا أنصح به للجميع، ليس فقط للمهتمين بالكتابة أو الجري. أتمنى أن تصدر ترجمة عربية عما قريب.

"أنظر إلى السماء، وأتساءل إن كنت سأختطف لمحة سريعة من العطف هناك، لكني لا أفعل. كل ما أراه هو سحب الصيف اللامبالية، تسير ببطء نحو المحيط الهادي. وليس لدى السحب ما تقوله لي. السحب دومًا كتومة هكذا. على الأرجح لا ينبغي أن أنظر إليهم. ما ينبغي أن أفعله هو أن أنظر في داخلي. كما يحدق المرء في بئر عميق. هل أرى عطفًا بداخل البئر؟ لا، كل ما أراه هو طبيعتي. طبيعتي المتفردة، العنيدة، غير المتعاونة، الأنانية أحيانًا التي ما تزال تشك في نفسها، التي تحاول في وقت الشدائد أن تجد شيئًا مضحكًا - أو نصف مضحك - في الموقف. حملت طبيعتي تلك معي كحقيبة سفر قديمة، في طريق طويل مغبر. لا أحملها معي لأنني أحبها؛ فالمحتويات ثقيلة جدًا والحقيبة تبدو قذرة، باهتة الألوان في بعض البقع. أحملها معي لأن لا يوجد شيء آخر من المفترض عليّ حمله. مع ذلك، أعتقد أنني تعلقت بها مع الزمن. كما هو متوقع."