الأربعاء، 19 فبراير 2020

عالم جديد شجاع

"ما فائدة الحقيقة أو الجمال أو المعرفة عندما تنهمر قنابل الجمرة الخبيثة فوق رأسك؟"، يتساءل ألدوس هكسلي في روايته الديستوبية الشهيرة عالم جديد شجاع.



يمر بذهني نفس التساؤل وأتذكر أحداث الرواية بينما أقف في المطر، مطأطأة الرأس، منتظرة زميلتي بينما تشتري طلباتها من السوبرماركت. السماء تمطر بعنف اليوم ومزاجي معتل، تمامًا كالطقس أو ربما بسببه. حذائي مبتل وفقدت أحساسي بأطراف أصابع قدميّ. كان يومًا طويلًا فحسب، وكنت أشتاق للشمس. شمس مصر تحديدًا، وكأنما لا توجد الشمس في غيرها.
ثم أتذكر أيضًا، بدون سبب واضح، مقولة بطل الرواية في نهايتها: "أنا لا أريد الراحة. أريد أن أعرف الله. أريد الشِعر، أريد الخطر الحقيقي، أريد الحرية، أريد الخير، أريد الخطيئة. أنا أطالب بحقي في أن أكون تعيسًا". 

ثم تقترب مني عجوز لطيفة بابتسامة تذكرني بجدتي - رحمها الله. لا يبدو أنها تجد مظهر حجابي غريبًا على نقيض أهل البلد هنا، فتشير لي أن أقترب. أحاول أن أقول لها إني لا أتكلم البولندية؛ لكن سرعان ما أفهم ما تريد أن تقوله على أي حال: تريدني أساعدها في وضع "تربون" خفيف على شعرها الفضي؛ في محاولة لحماية تصفيفة شعرها من المطر. هذا أيضًا يذكرني باهتمام جدتي بأناقتها. أستغرب طلبها لوهلة، لكن بعد أن أقترب منها، أرى كيف ترتعش يداها. كانت المسكينة تكافح لتغطية رأسها: مُهمة أنفذها أنا في بضع ثوان. بعد أن أساعدها في المهمة، تبتسم لي تلك الابتسامة التي تذكرني بجدتي مرة أخرى، وفجأة يصبح الجو أكثر دفءًا، ولا يزعجني المطر كثيرًا.

ربما لا نفع من الحقيقة والجمال والمعرفة بينما ينهار العالم من حولنا. ربما لا ضرورة في مطالبة المرء بحقه في التعاسة. ربما كل ما يسعنا تقديمه لبعضنا البعض هو بعض التعزية، ليصبح فناؤنا حدثًا أقل ديستوبيّة.

كتب في وارسو، أكتوبر 2019.

الاثنين، 3 فبراير 2020

ربما عليك التحدث إلى شخص ما

الكتاب: Maybe You Should Talk to Someone 
المؤلفة: لوري جوتليب
اللغة: الانجليزية
التقييم: 5/5


قال عالم النفس السويسري كارل يونج: "الناس على استعدادٍ لفعل أي شيء على الإطلاق، مهما كان سخيفًا؛ لتجنُب مواجهة أنفسهم". ومن هنا يمكنني القول أن هذا الكتاب هو سلسلة مواجهات للنفس. لم أتوقع أن يعجبني لهذا الحد (بصراحة، توقعت أن أجد سخافات التنمية الذاتية التي يحبها بعض الأطباء النفسيين)، وبالطبع سعيدة لقراءته في وقت حاجتي له.  



لوري جوتليب هي طبيبة نفسية في الأربعينيات. ينقلب عالمها رأسًا على عقب بعد ما تركها حبيبها فجأة وبدون مقدمات، فبدلًا من التخطيط لحفل زفاف معًا، عليها الآن التخطيط لمستقبل مجهول وحدها. بعدما فشلت في تخطي الأمر كتجربة عاطفية غير موفقة فحسب، تجد جوتليب نفسها في حاجة إلى التحدث إلى شخص ما، وهذا يعني شخصًا محترفًا. فماذا يحدث عندما تذهب طبيبة نفسية لتلقي العلاج النفسي؟

"لا يمكننا التغير بدون تذوق مرارة الفقد، ولهذا يقول الكثير أنهم يريدون أن يتغيروا، لكن مع ذلك يظلون كما هم".

من خلال فصول الكتاب، لا نتابع فقط تطور علاج لوري، بل نرى أيضًا لمحات من حياة مرضاها. هناك شخص مصاب باضطراب الشخصية النرجسية، وأخرى حديثة الزواج تحارب سرطانًا مميتًا، وشابة عشرينية تائهة بين الكحول والرجال السيئين، وعجوز سبعينية تبحث عن الحب وأحيانًا تهرب منه (وتريد الانتحار أيضًا بالمرة). يا لها من مجموعة! يمكن القول أن قصة لوري نفسها هي أقل تلك القصص إثارة للاهتمام!


"من الأشياء التي لا يحب الناس التفكير فيها هي أن المرء يمكن أن يفعل كل شيء على وجه الصواب: في الحياة أو في العلاج، ومع ذلك تجري الأمور بشكل سيء. وعندما يحدث ذلك، يمكنك فقط التحكم في رد فعلك تجاه هذا الموقف، بطريقتك أنت، لا بالطريقة التي يظن الناس أنها الصواب."

عبر فصول الكتاب، نشاهد تطور الشخصيات الأساسية. يصبح الرجل النرجسي أكثر تعاطفًا مع أحبائه ومع لوري نفسها، وتنكشف جوانب من شخصيته وماضيه شيئًا فشيئًا لنرى أن شخصيته المتغطرسة هي غطاء لماضِ قاس.

تصوري لشكل الشخصية. لا أعرف لماذا أراه في ذهني رجلًا أصلع من أصول روسية!

بالمثل، تتعامل مريضة السرطان مع مرضها بشكل أكثر وعيًا. هناك كلمة في اللغة الانجليزية احترت طويلًا في ترجمتها: grace، القادمة من اللاتينية gratus (قد تترجم إلى الفضيلة أو الشرف أو السمو عن كل ما هو دنيء، لكن ما زلت لا أرى هذه الترجمات كافية). يمكن القول أن المريضة هذه هي تجسيد لمفهوم الـgrace، وبالنسبة لي كانت هي الشخصية الأكثر عمقًا في الكتاب. 

"عندما ينهار الحاضر، ينهار معه المستقبل الذي ربطناه بالحاضر. وانهيار المستقبل هو أعظم النهايات المفاجئة جميعًا. لكن إذا قضينا حاضرنا في محاولة إصلاح الماضي أو التحكم في المستقبل، سنظل عالقين في مكاننا، في ندم أبدي".

أما الشابة العشرينية، فتتعلم مواجهة نفسها بمشكلتها مع الكحول، كما تتعلم سبب انجذابها لرجال غير مناسبين.

"تعاطف الأحمق هو تجنب مناقشة الأمور مع الآخر من أجل مراعاة مشاعره، مع أن الأمور بالفعل تحتاج للمناقشة، وهنا يصبح تعاطفك مضرًا أكثر من صراحتك".

أما العجوز السبعينية، فتتعلم أخيرًا أن تسامح نفسها على ما صدر منها من أخطاء في الماضي، وأن تفتح أبواب قلبها - مرة أخرى وللأبد - للحب، بكل صوره. 

تقول العجوز السبعينية في الكتاب: "It ain't over till it's over."، وهو ما يذكرني باقتباس لتشيخوف (بالطبع. ذاك الروسي الوسيم مرة أخرى!) من رواية رجل مجهول:
 "سوف نحيا! الشمس لا تشرق في اليوم مرتين، والحياة لا تعطى مرتين.. فلتتشبث بقوة ببقايا حياتك ولتنقذها!"
الموسيقى المصاحبة:

كتب في برشلونة، إسبانيا. فبراير 2020