الاثنين، 30 سبتمبر 2019

وعندما أموت، ادفنوني في أوكرانيا الخضراء

مرحبًا مرة أخرى. في ختام محاضرة اللغة البولندية الأسبوع الماضي، أسمعتنا الأستاذة أغنية شعبية من التراث البولندي. الأغنية بالغة الرقة والجمال، أردت أن أنقلها لكم هنا.

في الحقيقة، مصدر الأغنية غير معلوم؛ فهي تتواجد في تراث بولندا، أوكرانيا، التشيك، سلوفاكيا، وبيلاروس. تحكي الأغنية عن جندي يودع حبيبته الأوكرانية، وكذلك أوكرانيا نفسها، للمرة الأخيرة، ويطلب أن يُدفن هناك عندما يموت.



يشاع أن الأغنية كتبت في منتصف القرن التاسع عشر، وقد اعتاد الجنود البولنديون أن يغنوها في الحرب البولندية - السوفييتية، وكذلك الحرب العالمية الثانية. إليكم كلمات الأغنية بالعربية:

هناك، من مكان ما أعلى المياة السوداء
يعتلي شاب من القوزاق جواده
بأسى، يودع فتاته
وبأسى أشد يودع أوكرانيا

مرحى، مرحى، مرحى يا صقور!
طيروا عاليًا عبر الجبال والغابات والأنهار والوديان
رني، رني، رني يا أجراسي الصغيرة
يا منحدري ويا عصفوري الصغير

هناك الكثير من الفتيات في العالم
لكن أفضلهن في أوكرانيا
هناك، تركت قلبي
مع فتاتي المحبوبة

مرحى، مرحى، مرحى يا صقور!
طيروا عاليًا عبر الجبال والغابات والأنهار والوديان
رني، رني، رني يا أجراسي الصغيرة
يا منحدري ويا عصفوري الصغير

حزن، حزن، حزن لتلك الفتاة
حزن لأوكرانيا الخضراء
حزن، حزن، القلب يبكي
لن أراها مرة أخرى

مرحى، مرحى، مرحى يا صقور!
طيروا عاليًا عبر الجبال والغابات والأنهار والوديان
رني، رني، رني يا أجراسي الصغيرة
يا منحدري ويا عصفوري الصغير

خمر، خمر، أعطوني خمرًا
وعندما أموت ادفنوني
في أوكرانيا الخضراء
مع فتاتي العزيزة

مرحى، مرحى، مرحى يا صقور!
طيروا عاليًا عبر الجبال والغابات والأنهار والوديان
رني، رني، رني يا أجراسي الصغيرة
يا منحدري ويا عصفوري الصغير




السبت، 28 سبتمبر 2019

ما أتحدث عنه عندما أتحدث عن الجري

يقول هاروكي موراكامي أنه لم يُخطط قط ليصبح كاتبًا. كل ما حدث هو أنه كان يشاهد مباراة بيسبول ذات يوم، وفجأة اجتاحته رغبة عارمة في أن يكتب رواية. ذهب بعد المباراة لشراء أوراق للكتابة وقلم حبر؛ وعاد إلى منزله. أمضى الشهور القليلة التالية في كتابة روايته الأولى، ثم تغير كل شيء. في واحد من الكتب الأقرب لقلبي على الإطلاق، "ما أتحدث عنه عندما أتحدث عن الركض"، يقول موراكامي: "لم أبدأ في ممارسة الركض تلبيةً لطلب أحد. تمامًا كما لم أبدأ في كتابة الروايات تلبيةً لطلب أحد. في يوم من الأيام، قررت فجأة أنني أريد أن أكتب. وفي يوم من الأيام، قررت أن أجري. ببساطة لأنني أريد ذلك. لطالما فعلت أي شيء تمليه علي إرادتي في الحياة. قد يمنعني الناس، وقد يحاولون إقناعي بأنني على خطأ، لكنني لن أتغير." 




أعتقد أن هذا ما حدث معي بالضبط، لكن مع رياضة الركض، ليس مع الكتابة بالطبع. لم أكن شخصًا رياضيًا قط. في سنوات المراهقة، لعبتُ الهوكي وكرة السلة؛ لكن كانت تزعجني الطبيعة العنيفة لتلك الألعاب. كنت أجد المتعة في سرعة الحركة التي تتطلبها اللعبتان، لكن في نفس الوقت كنت أكره احتكاكي باللاعبين الآخرين؛ أكره انتزاع الكرة بالقوة من إحداهن أو أن أصطدم بها عمدًا فأطرحها أرضًا لأفوز. أعتقد أن الأمر لم يتماش مع طبيعتي فحسب؛ فتوقفت عن اللعب. كان ذلك منذ عشر سنوات تقريبًا. ثم جاءت لحظة كلحظة موراكامي. تمنيت ذات أمسية هادئة لو أنني خرجت من شقتي وانطلقت. لا يهم إلى أين أو أي مسار أتبع؛ كانت ساقاي تطوقان للانطلاق فحسب. في المساء التالي، ذهبت إلى متجر رياضي واشتريت بذلة رياضية وحذاء مخصص للجري. 


بعد ذلك بأسبوع، على كورنيش الإسكندرية في شمس الصيف الحارقة، أطلقت العنان لساقاي لأول مرة منذ سنوات. ركضت ما يقرب من ثلاثة كيلومترات في نصف ساعة تقريبًا. كان الألم في ساقاي لا يحتمل، واحمرّ وجهي بفعل الشمس كأنما أصبت بالحساسية. لا شك في أنني بدوت في حالة مزرية، لكن كنت أشعر كأنني أحلق. لم أفكر في أي شيء: لا في نفسي ولا في الأشخاص، ولا في المستقبل أو الماضي، ولا حتى في الأغنية التي أسمعها. كان عقلي كصفحة بيضاء. (علماء النفس يسمون هذه الحالة Psychological flow - عندما يكون الشخص منسجمًا تمام الانسجام في نشاطٍ يفعله لدرجة أنه يفقد إحساسه بأي شيء آخر، كأنما ينعزل عن العالم). كان يركض معي بالمصادفة شاب لطيف، نشأت بيننا صداقة صامتة غير مصرحة، فكان يسرع خطاه عندما أتخطاه ليستعيد الصدارة أحيانًا، وأحيانًا يعدو بخطوات أكثر بطءً عندما يسبقني، كأنما يحثني على المضي قدمًا. 
  
الحديقة التي أمارس فيها الجري الآن


الآن، أركض لمدة ساعة تقريبًا مرة أو مرتين كل أسبوع، وأحقق مسافة تتراوح ما بين 4 إلى 7 كيلومترات. عادة ينضم إلى صديق أو اثنين، وأجد أن آدائي عندما أجري برفقة آخرين (خاصة إذا كانوا أكثر تمرسًا) يكون أفضل في معظم الوقت. منذ انتقلت إلى أوروبا أصبح الركض أكثر صعوبة، فالمناخ هنا بارد والتنفس السريع يصبح مؤلمًا في وجود الرياح، والمطر يسقط أغلب الأيام، مما يجعل الحياة مزعجة قليلًا. لا أعتقد أنني على استعداد لجري مسافة ماراثون عما قريب (مسافة الماراثون 42.195 كيلومتر)! لكن ربما أشارك في سباقات النصف-ماراثون. من يدري!

في الختام، ها هو واحد من اقتباساتي المفضلة من كتاب موراكامي، من ترجمتي الخاصة (أعتذر لبشاعة اللغة وضعف قدراتي التعبيرية). حقًا أنصح به للجميع، ليس فقط للمهتمين بالكتابة أو الجري. أتمنى أن تصدر ترجمة عربية عما قريب.

"أنظر إلى السماء، وأتساءل إن كنت سأختطف لمحة سريعة من العطف هناك، لكني لا أفعل. كل ما أراه هو سحب الصيف اللامبالية، تسير ببطء نحو المحيط الهادي. وليس لدى السحب ما تقوله لي. السحب دومًا كتومة هكذا. على الأرجح لا ينبغي أن أنظر إليهم. ما ينبغي أن أفعله هو أن أنظر في داخلي. كما يحدق المرء في بئر عميق. هل أرى عطفًا بداخل البئر؟ لا، كل ما أراه هو طبيعتي. طبيعتي المتفردة، العنيدة، غير المتعاونة، الأنانية أحيانًا التي ما تزال تشك في نفسها، التي تحاول في وقت الشدائد أن تجد شيئًا مضحكًا - أو نصف مضحك - في الموقف. حملت طبيعتي تلك معي كحقيبة سفر قديمة، في طريق طويل مغبر. لا أحملها معي لأنني أحبها؛ فالمحتويات ثقيلة جدًا والحقيبة تبدو قذرة، باهتة الألوان في بعض البقع. أحملها معي لأن لا يوجد شيء آخر من المفترض عليّ حمله. مع ذلك، أعتقد أنني تعلقت بها مع الزمن. كما هو متوقع."