الاثنين، 2 مايو 2022

مختارات من كتاب اللاطمأنينة

 هذه مقاطع من كتاب اللاطمأنينة للعزيز فيرناندو بيسوا. ترجمتها منذ ثلاثة أعوام من الإنجليزية، وأعيد نشرها الآن بعدما اكتشفت أني لم أرفعها على المدونة. علمًا بأن الكتاب منشور بالفعل بترجمة عربية احترافية، لكني أحببت أن أقدم ترجمتي الخاصة لمقاطعي المفضلة من الكتاب. قراءة ممتعة.


"أنا لا أتذمر بشأن العالم. لا أحتج على الكون. أنا لست متشائمًا. أنا أعاني وأشكو، لكني لا أعرف إن كانت المعاناة هي القاعدة العامة، لا أعرف إن كانت المعاناة سلوك بشري. لِم عليّ أن أهتم بمعرفة ذلك؟" 

"لقد طالبت الحياة بأقل القليل، ومع ذلك حُرمت منه. طالبت بحقلٍ قريب، بشعاعٍ من الشمس، بقليل من الهدوء مصحوبًا بكسرة خبز، بألا يقهرني إدراكي بالوجود، بألا أحتاج شيئًا من الآخرين، وألا يحتاج مني الآخرون شيئًا. حرمت من كل هذا، بالضبط كما يُحرم الشحاذ من عملات الفضة: ليس لأن المارة قساة القلوب، ولكن لأنهم لا يرغبون في فك أزرار معاطفهم."

"إن الشخص الحساس صادق الفكر، إن كان قلقًا بشأن تفشي الشر والظلم في العالم حقًا، سوف يبدأ حملته ضدهما عن طريق القضاء عليهما من أقرب مصدر لهما: من نفسه. وتلك المهمة ستستغرق منه عمره كاملًا."

"البعض يقول أن الحياة بدون أمل مستحيلة، والآخرون يقولون أن الأمل يجعلها فارغة. بالنسبة لي، بما أنني توقفت عن الأمل وعن اليأس، الحياة ببساطة هي صورة خارجية تحتويني، أشاهدها كمسرحية عديمة الحبكة، غرضها فقط تسلية الناظرين. الحياة بالنسبة لي هي رقصة غير منظمة، هي صوت حفحفة أوراق الأشجار في الريح، هي سُحب يمر خلالها ضوء الشمس فيتغير لونه، هي شوارع عتيقة تتفرع في كل اتجاه عبر المدينة."

 "قد نكون على علمٍ بأن العمل الذي نؤجل إكماله دومًا هو سيء. لكن الأسوأ منه هو العمل الذي لا نشرع فيه أبدًا. العمل المكتمل هو على الأقل قد اكتمل. قد يكون رديئًا، لكنه موجود، مثل النبتة البائسة المزروعة في الإصيص الوحيد لجارتي القعيدة. تلك النبتة هي كل سعادتها، وأحيانًا هي كل سعادتي أيضًا. إن ما أكتبه، على كل ما فيه من سوء، قد يوفر لروحٍ جريحة أو حزينة بضعة لحظات من التشاغل عما هو أسوأ. هذا يكفيني، أو ربما لا يكفيني، ولكنه يؤدي غرضًا، وهكذا هو الأمر مع كل نواح الحياة."

"أرى الحياة كفندق على الطريق، وأنا مضطر للبقاء فيه إلى أن تصل العربة القادمة من الهاوية. لا أعرف إلى أين ستأخذني العربة؛ لأنني لا أعرف شيئًا. يمكنني أن أعتبر الفندق سجنًا؛ لأنني مجبرٌ على الانتظار فيه، أو يمكنني أن أعتبره ملتقًا اجتماعيًا؛ لأنني أقابل الآخرين هنا. ولكنني لست جزوعًا ولا اجتماعيًا. أترك أولئك الذين يريدون أن يختلوا بأنفسهم في حجراتهم مستلقين على أسرتهم حيث ينتظرون في أرق، وأترك أولئك الذين يدردشون في الصالات حيث تتردد أصواتهم وأغانيهم لتصل إلى مسمعي هنا في الخارج. أما أنا، فأقف على عتبة الباب، أُمَتّع بصري وسمعي بألوان وأصوات الطبيعة، وأغني بعذوبة - في سري فحسب - أغانٍ رقيقة ألحنها أثناء الانتظار.
يحل الليل علينا جميعًا، وتصل العربة. أستمتع بالنسيم الذي يُمنَح لي والروح التي مُنِحت إياها للاستمتاع به، وأكف عن التساؤل والسعي. إن كان ما أكتبه في سجل المسافرين سوف يقرؤه أحدهم في المستقبل ويستمتع به، فلا بأس. وإن لم يقرأه أحدهم، أو لم يستمتع به، فلا بأس أيضًا."

 "أحمل إدراكي بهزيمتي كمن يحمل راية نصر."

" لم أطمح قط لأن أكون أكثر من شخص حالم. لم أعر انتباهًا لمن حدثوني عن الحياة. لطالما شعرت بالانتماء إلى مكان لا أتواجد فيه وإلى حالة لم أكن عليها. كل ما هو ليس لي، مهما كان حقيرًا، يحمل نوعًا من الشاعرية بالنسبة لي.
الشيء الوحيد الذي أحببته هو اللاشيء على الإطلاق. الشيء الوحيد الذي رغبت فيه هو ما استحال عليّ حتى مجرد تخيله. كل ما طلبته من الحياة هو أن تستمر، لكن دون أن أشعر بها. كل ما طلبته من الحُب هو ألا يكف عن كونه حلمًا بعيدًا."

"يكفينا غموض الكون لأن نفكر فيه؛ لأن رغبتنا في أن نفهمه تنتقص من آدميتنا، بما أنه من الطبيعة الإنسانية أن ندرك استحالة فهمه.
الإيمان يُقدم إليّ كعُلبة محكمة الغلق على طبقٍ غريب الشكل، والمفترض أن أتقبله كما هو دون أن أفتح العلبة. والعلم يُقدم إليّ كسكين على طبق، لأقطع به طيات كتاب صفحاته بيضاء فارغة. والشك يُقدم إليّ كترابٍ داخل صندوق. لكن لِم يعطونني صندوقًا كل ما يحويه هو التراب؟"

"بعض الناس يحكمون العالم، والبعض الآخر هم العالم. هناك فرق كمي لا كيفي ما بين مليونير أمريكي، أو قيصر، أو نابليون، أو لينين، بينهم وبين القائد الاشتراكي لمدينة صغيرة. وأسفل هؤلاء نقع نحن، غير الملحوظين: الكاتب المسرحي المتهور ويليام شكسبير، المُدرس جون ميلتون، المتسول دانتي آليجييري، فتى التوصيل الذي قام بمشاوير لي في الأمس، الحلاق الذي يخبرني بالنكات، والنادل الذي أظهر لي مودته بتمنيه الخير لي، بعد أن لاحظ أنني شربت نصف زجاجة النبيذ فقط."

" للأسف، أو ربما لحسن الحظ، أدرك أن لي قلبًا قاحلًا. الكلمات تثير اهتمامي أكثر من النحيب الحقيقي لروح إنسان.
لكن أحيانًا أكون مختلفًا. أحيانًا أبكي دموعًا دافئة كأولئك الذين حرموا من أمهاتهم منذ الولادة، والعيون التي تلتهب بدموعها الميتة تحرق قلبي من داخله."

" لندعي أننا أساطير، مهما كان زعمنا خاطئًا، إلى أن نتوقف عن معرفة من نكون. لأننا، في واقع الأمر، أساطير زائفة، ليست لدينا أدنى فكرة عما نكونه في الحقيقة. الطريقة الوحيدة لنكون في وفاقٍ مع الحياة هي أن نختلف مع ذواتنا. السخافة صفة مقدسة.
لنضع النظريات، لنجتهد بصبرٍ وبصدق، لنتصرف عكس ما تمليه علينا نظرياتنا، لنتصرف ونبرر تصرفاتنا بنظريات جديدة تدينها. لنشق طريقًا في الحياة فنمشي فورًا في الطريق المخالف. لنعتنق وضعيات وإيماءات دالة على شيء لسنا عليه ولا نتمنى أن نصبحه، ولا حتى نتمنى أن يعاملنا الناس وفقًا له.

لنشتري الكتب ثم لا نقرؤها، لنذهب إلى الحفلات بغير اكتراث لسماع الموسيقى أو رؤية الحاضرين، لنذهب للتمشية لمسافات طويلة لأننا سئمنا المشي، ولنمضي أيامًا طويلة في الريف لمجرد أنه يصيبنا بالملل."

"روحي نافذة الصبر مع ذاتها، كطفلٍ مزعج يزداد هياجه يومًا بعد يوم ولا يتغير. كل شيء يثير اهتمامي، ولكن لا شيء يستحوذني. أنتبه لكل شيء، بينما أحلم طول الوقت. ألاحظ أدق تعابير وجه من أتحدث إليه، أسجل كل تغير في نبرة نطقه لكلماته، لكنني أسمع دون أن أستمع؛ فأنا أفكر في شيء آخر."