الثلاثاء، 11 أكتوبر 2022

رقيق هو الليل: مراجعة

 

الكتاب: Tender is the Night - رقيق هو الليل
المؤلف: ف. سكوت فيتزجيرالد
لغة القراءة: الإنجليزية
صيغة القراءة: كتاب ورقي
التقييم: 4 من 5


بعد عطلة إجازة عيد الفصح قضيتها على ساحل الريفييرا الإيطالية، وجدت نفسي في متجر لبيع الكتب في محطة قطار ميلانو. وكما العادة، لم أستطع منع نفسي من دخول المتجر وقضاء دقائق الانتظار لقطاري بين رفوف الكتب. 

ولحسن حظي، وجدت لديهم مجموعة غير صغيرة من الكتب الإنجليزية بثمن بخس - أربعة يوروهات للكتاب، فكان من الطبيعي أن أتناول كتاب أو اثنين لتسليتي في رحلة قطاري الطويلة في العودة إلى ألمانيا. 

وقع نظري بادئ الأمر على هذا الكتاب: رقيق هو الليل، لأبي الرواية الأمريكية ف. سكوت فيتزجيرالد. لم أسمع يومًا بهذا العنوان من قبل، وفاجأني حجم الكتاب الكبير. ما أعرفه عن فيتزجيرالد هو أنه مؤلف الكلاسيكية الخالدة: جاتسبي العظيم - تحفة فنية في عمقها البليغ المختصر. 

قمت ببعض القراءة الجانبية عن القصة ذاتها، فوجدت أنها آخر رواياته، ويشاع عنها أيضًا أنها روايته الذاتية (أي رواية تقترب في أحداثها وشخوصها من كونها سيرة ذاتية للكاتب). 

تتبع الرواية حياة ديك دايفر، طبيب نفسي شاب وناجح يعشق الحياة، متزوج من نيكول، امرأة ثرية، جميلة، ومريضته سابقًا. (وهنا أول إسقاط على حياة فيتزجيرالد ذاته، فهو كان قد كتب الرواية أثناء احتجاز زوجته زيلدا فيتزجيرالد في المستشفى العقلية بعد معاناتها مع الفصام). على الخارج، يبدو زواج ديك ونيكول ناجحًا، ويجتذب حولهما الكثير من الأصدقاء خلال ترحالهما في أوروبا. من هؤلاء الأصدقاء روزماري، مراهقة أمريكية على وشك أن تصبح نجمة هوليوود. تفتتن روزماري بديك، وبنيكول، ونرى تحول العلاقة بين روزماري وديك تدريجيًا من إعجاب مراهقة بشاب متزوج، إلى علاقة افتتان متبادل. 

تتشعب خيوط القصة في سرد سلس رائع كما عودنا فيتزجيرالد، ونرى كيف تتحول حيوات الأبطال مع مرور الزمن. تتضح أيضًا مع الوقت دوافع ديك في الزواج من نيكول، ونرى كيف تجلب لهما تلك الزيجة الكثير من الألم. 

هنا يذكرني الكتاب بمقولة سمعتها مرارًا في العالم الأكاديمي وأجزم بأنها صحيحة تمامًا: "اختيارك للشخص الذي تتزوجه يحتم مدى نجاح حياتك العملية". نرى سقوط ديك دايفر في بئر الإرهاق وإدمان الكحول تدريجيًا مع انهيار زواجه من نيكول، الذي لم يكن مقامًا على أساس صحي من البداية.  

لن أقوم بحرق القصة، ولكن بشكل عام استمتعت كثيرًا بالرواية، وبقلم فيتزجيرالد البديع. أعتقد أنها من أجمل ما قرأت منذ فترة: الوصف الدقيق لحالة الوقوع في الحب، سرد الشخصيات وتعاملاتها وحواراتها، كل ذلك كان متعة كبيرة أشعرتني بالامتنان لفيتزجيرالد كثيرًا. 

اقتباسات:

"أنت أول فتاة أراها منذ زمن وهي تبدو مثل شيء يزهر".

"إذا كنتي واقعة في الحب فمن المفترض أن تكوني سعيدة. من المفترض أن تضحكي".

"لاحقًا، تذكرت أحداث تلك الظهيرة بكونها سعيدة. كانت واحدة من تلك الأوقات غير الحافلة بالأحداث، التي تبدو كأن دورها هو فقط ربط سعادة الماضي بسعادة المستقبل، إلى أن يدرك المرء أنها هي السعادة نفسها".

 "عندما رأته وجهًا إلى وجه التقت أعينهما كأجنحة العصافير. وبعد ذلك أصبح كل شيء على ما يرام، كل شيء رائع، وأدركت أنه على وشك الوقوع في حبها. شعرت بالسعادة الجامحة، شعرت بدفء انفعال عواطفها يدفئ جسدها. اندفعت فيها ثقة واضحة وباردة، وغنت في روحها".

"كانا ما يزالان في أسعد مراحل الحب. كانت تملأهما تهيؤات جامحة عن بعضهما البعض، خيالات هائلة، فقد بدا أن اتحاد النفس بنفس الآخر يقع في مستوى لا تقرب إليه أي صلة إنسانية أخرى".

"عادة يلعب الرجل دور الطفل التائه في حضور امرأة، لكنه لا يستطيع فعل ذلك أبدًا إذا كان يشعر بالفعل كطفل تائه".

"في ضوء مصابيح شوارع زيورخ كان يفكر في أنه يريد أن يكون صالحًا، يريد أن يكون طيبًا، ويريد أن يكون شجاعًا وحكيمًا، لكن كل هذا كان صعبًا جدًا. كان يريد أن يكون محبوبًا أيضًا، إن كان هناك متسع لذلك".

"سئمت من جهلي بكل شيء ومن تذكيري طوال الوقت بذلك".

"يجب أن تلمس الحياة لكي تولد منها".

"يقول المرء إن الجراح تلتئم، في محاولة لتشبيه جراحنا النفسية بجراح البشرة، ولكن لا يوجد شيء كهذا في حياة المرء. توجد جراح مفتوحة، أحيانًا تتقلص إلى حجم وخزة الدبوس، لكنها تظل جراحًا. لعل علامات المعاناة أكثر شبهًا بفقدان اصبع، أو فقدان البصر في إحدى العينين. قد لا نفتقدهم طوال الوقت، لكن حينما نشعر بغيابهم، لا يمكننا أن نفعل أي شيء حيال ذلك الأمر".

الأربعاء، 20 يوليو 2022

سفينة نيرودا: بتلة بحر طويلة

 

الكتاب: سفينة نيرودا A Long Petal of the Sea
الكاتبة: إيزابيل آيندي
لغة القراءة: الإنجليزية
صيغة القراءة: كتاب ورقي
التقييم: 5 نجوم

منذ أولى قراءاتي لإيزابيل العام الماضي، في كتاب بعنوان روح امرأة The Soul of a Woman، وجدت نفسي مسحورة بشخصيتها الجريئة، بقلمها الذي لا يعرف الخوف من أحكام الناس وتعليقات النقاد. إيزابيل تكتب لأنها تريد أن تكتب، لأن لديها ما يُقال. هي لا تكترث كثيرًا برأيك في حدتها، بل ربما يصيبها بعض الرضا إن تمكنت من استفزازك قليلًا.

رواية سفينة نيرودا هي أول تجاربي الروائية مع إيزابيل، وكما توقعت، لم تخيب ظني أبدًا. تدور الرواية حول أسرة إسبانية تضطر إلى اللجوء في تشيلي (الموطن الأصلي لإيزابيل) إبان الحرب الأهلية الإسبانية في ثلاثينات القرن الماضي. الشخصان الرئيسيان هم روزر، عازفة بيانو فُقد حبيبها في الحرب وتركها في أواخر شهور الحمل بابنهما، وفيكتور، طبيب بارع وأخو الجندي المفقود. 

لكي يتمكن فيكتور وروزر من النجاة على متن السفينة المتجهة إلى القارة الأمريكية الجنوبية، ومن ثم بناء حياتهما من الصفر، يضطران إلى الزواج لتسهيل إجراءات الهجرة والمعيشة. يبدأ زواجهما كعلاقة أخوة، تمامًا كما كانت قبل اختفاء الأخ المقاتل، ثم تتطور إلى صداقة ثم إلى حب أسري، يجمعهما الحاجة للاعتناء بالطفل، والأمل الأبدي في العودة إلى إسبانيا.

سلسلة من الهجرات والمطاردات تتحملها تلك الأسرة غير التقليدية، لتصل أخيرًا إلى بر الأمان. هناك شعور بالدفء يغمرني عند تذكر علاقة روزر وفيكتور، وكيف يمكن للحب - حتى وإن كان أخويًا، غير شهواني - أن يعبر بالمرء محيطات. أبكتني الرواية كثيرًا، وأضحكتني أيضًا بحس الدعابة المعتاد لإيزابيل. ملحمة حقيقية أظنها سوف تظل على لائحة الكلاسيكيات المعاصرة لعدة سنوات من الآن.


اقتباسات (مترجمة من الإنجليزية بواسطتي):

"لقد وقعت في حب فكرة الحب، والرومانسية، وماضي حبيبها البطل، كما كانت تسميه. عاشت في عرض أوبرا يتحتم على نهايته أن تكون تراجيدية. كانت تعلم أن فيكتور يحبها - على الأقل يحبها بقدر ما يمكنه بقلبه الجريح، لكن من جانبها، كان الأمر كله مجرد طيش واندفاع، محض خيال، نزوة أخرى من نزواتها."

"من أي مادة غير قابلة للتدمير صنعت روزر؟ كيف كان محظوظًا بأن يمتلكها طيلة هذه السنوات؟ وكيف كان غبيًا لئلا يحبها من البداية كما يحبها الآن؟ لم يتصور أن في سنه هذه يمكنه أن يقع في الحب كمراهق، أو أن يشعر بالرغبة كالحرائق البرية. نظر إليها مبتهجًا، لأن خلف ستارة مظهر المرأة الناضجة تكمن فتاة بريئة، خجولة، تمامًا كما كانت في كاتالونيا ترعى الماعز فوق التلة. أراد أن يحميها ويعتني بها، رغم أنه كان يعرف أنها أقوى منه كلما تعرضا لأي صعاب."

"الإنتروبيا هي قانون الطبيعة الذي يسري على الكون، كل شيء يميل إلى الفوضى، إلى التفكك، إلى الشتات. يتوه الناس، انظر حولك لترى كم تشتتوا أثناء اللجوء، المشاعر تتبدد، والنسيان يتسلل إلى حيوات الناس كالضباب. يتطلب الأمر عزيمة بطولية فقط ليبقى كل شيء في مكانه. "تلك هي هواجس أي لاجئ"، قالت روزر. "لا، هي هواجس أي محب"، صححها فيكتور."

"في نظر فيكتور، لا بأس في ممارسة الرياضة، ولكن من على وجه الأرض يريد الجري دون أن يكون هناك من يطارده؟ أو أن يعبر قارات بواسطة دراجة؟"

" - اسمعي يا انجريد، إن أهم أحداث حياتنا، تلك التي تحدد مصيرنا، تكون غالبًا خارج نطاق تحكمنا. في حالتي، أرى مسار حياتي مرسومًا بسبب الحرب الأهلية الإسبانية في شبابي، ثم بعد ذلك بالانقلاب العسكري، ثم بمعسكرات الاعتقال والنفي. لم أختار أيًا من هذه المسارات، بل هي حدثت لي.

= ولكن هناك أشياء اخترتها بنفسك، كالطب مثلًا.

- هذا صحيح، وقد أعطاني ذلك قدرًا كبيرًا من الرضا. ولكن أتعلمين ما الذي أمتن له أكثر من غيره؟ الحب. هذا هو ما  أثر في أكثر من أي شيء آخر."

الاثنين، 13 يونيو 2022

قهوة لشخصين ونباتات للست

قهوة لشخصين، غرفة معيشتي يوم أحد مشمس في يونيو. لدي نظرية: الحياة تحدث في يونيو. وما قبله أو بعده هو محاولات للتفاوض، سبات في انتظار يونيو قادم. نبتاتي تبدو اليوم أكثر سعادة في جلستها المعتادة على شباكي، وأكثر اخضرارًا. ترى أهي الشمس؟ أم هو صوت أم كلثوم يصدح في مطبخي "حبيبي يسعد أوقاته"؟ 

الاثنين، 2 مايو 2022

مختارات من كتاب اللاطمأنينة

 هذه مقاطع من كتاب اللاطمأنينة للعزيز فيرناندو بيسوا. ترجمتها منذ ثلاثة أعوام من الإنجليزية، وأعيد نشرها الآن بعدما اكتشفت أني لم أرفعها على المدونة. علمًا بأن الكتاب منشور بالفعل بترجمة عربية احترافية، لكني أحببت أن أقدم ترجمتي الخاصة لمقاطعي المفضلة من الكتاب. قراءة ممتعة.


"أنا لا أتذمر بشأن العالم. لا أحتج على الكون. أنا لست متشائمًا. أنا أعاني وأشكو، لكني لا أعرف إن كانت المعاناة هي القاعدة العامة، لا أعرف إن كانت المعاناة سلوك بشري. لِم عليّ أن أهتم بمعرفة ذلك؟" 

"لقد طالبت الحياة بأقل القليل، ومع ذلك حُرمت منه. طالبت بحقلٍ قريب، بشعاعٍ من الشمس، بقليل من الهدوء مصحوبًا بكسرة خبز، بألا يقهرني إدراكي بالوجود، بألا أحتاج شيئًا من الآخرين، وألا يحتاج مني الآخرون شيئًا. حرمت من كل هذا، بالضبط كما يُحرم الشحاذ من عملات الفضة: ليس لأن المارة قساة القلوب، ولكن لأنهم لا يرغبون في فك أزرار معاطفهم."

"إن الشخص الحساس صادق الفكر، إن كان قلقًا بشأن تفشي الشر والظلم في العالم حقًا، سوف يبدأ حملته ضدهما عن طريق القضاء عليهما من أقرب مصدر لهما: من نفسه. وتلك المهمة ستستغرق منه عمره كاملًا."

"البعض يقول أن الحياة بدون أمل مستحيلة، والآخرون يقولون أن الأمل يجعلها فارغة. بالنسبة لي، بما أنني توقفت عن الأمل وعن اليأس، الحياة ببساطة هي صورة خارجية تحتويني، أشاهدها كمسرحية عديمة الحبكة، غرضها فقط تسلية الناظرين. الحياة بالنسبة لي هي رقصة غير منظمة، هي صوت حفحفة أوراق الأشجار في الريح، هي سُحب يمر خلالها ضوء الشمس فيتغير لونه، هي شوارع عتيقة تتفرع في كل اتجاه عبر المدينة."

 "قد نكون على علمٍ بأن العمل الذي نؤجل إكماله دومًا هو سيء. لكن الأسوأ منه هو العمل الذي لا نشرع فيه أبدًا. العمل المكتمل هو على الأقل قد اكتمل. قد يكون رديئًا، لكنه موجود، مثل النبتة البائسة المزروعة في الإصيص الوحيد لجارتي القعيدة. تلك النبتة هي كل سعادتها، وأحيانًا هي كل سعادتي أيضًا. إن ما أكتبه، على كل ما فيه من سوء، قد يوفر لروحٍ جريحة أو حزينة بضعة لحظات من التشاغل عما هو أسوأ. هذا يكفيني، أو ربما لا يكفيني، ولكنه يؤدي غرضًا، وهكذا هو الأمر مع كل نواح الحياة."

"أرى الحياة كفندق على الطريق، وأنا مضطر للبقاء فيه إلى أن تصل العربة القادمة من الهاوية. لا أعرف إلى أين ستأخذني العربة؛ لأنني لا أعرف شيئًا. يمكنني أن أعتبر الفندق سجنًا؛ لأنني مجبرٌ على الانتظار فيه، أو يمكنني أن أعتبره ملتقًا اجتماعيًا؛ لأنني أقابل الآخرين هنا. ولكنني لست جزوعًا ولا اجتماعيًا. أترك أولئك الذين يريدون أن يختلوا بأنفسهم في حجراتهم مستلقين على أسرتهم حيث ينتظرون في أرق، وأترك أولئك الذين يدردشون في الصالات حيث تتردد أصواتهم وأغانيهم لتصل إلى مسمعي هنا في الخارج. أما أنا، فأقف على عتبة الباب، أُمَتّع بصري وسمعي بألوان وأصوات الطبيعة، وأغني بعذوبة - في سري فحسب - أغانٍ رقيقة ألحنها أثناء الانتظار.
يحل الليل علينا جميعًا، وتصل العربة. أستمتع بالنسيم الذي يُمنَح لي والروح التي مُنِحت إياها للاستمتاع به، وأكف عن التساؤل والسعي. إن كان ما أكتبه في سجل المسافرين سوف يقرؤه أحدهم في المستقبل ويستمتع به، فلا بأس. وإن لم يقرأه أحدهم، أو لم يستمتع به، فلا بأس أيضًا."

 "أحمل إدراكي بهزيمتي كمن يحمل راية نصر."

" لم أطمح قط لأن أكون أكثر من شخص حالم. لم أعر انتباهًا لمن حدثوني عن الحياة. لطالما شعرت بالانتماء إلى مكان لا أتواجد فيه وإلى حالة لم أكن عليها. كل ما هو ليس لي، مهما كان حقيرًا، يحمل نوعًا من الشاعرية بالنسبة لي.
الشيء الوحيد الذي أحببته هو اللاشيء على الإطلاق. الشيء الوحيد الذي رغبت فيه هو ما استحال عليّ حتى مجرد تخيله. كل ما طلبته من الحياة هو أن تستمر، لكن دون أن أشعر بها. كل ما طلبته من الحُب هو ألا يكف عن كونه حلمًا بعيدًا."

"يكفينا غموض الكون لأن نفكر فيه؛ لأن رغبتنا في أن نفهمه تنتقص من آدميتنا، بما أنه من الطبيعة الإنسانية أن ندرك استحالة فهمه.
الإيمان يُقدم إليّ كعُلبة محكمة الغلق على طبقٍ غريب الشكل، والمفترض أن أتقبله كما هو دون أن أفتح العلبة. والعلم يُقدم إليّ كسكين على طبق، لأقطع به طيات كتاب صفحاته بيضاء فارغة. والشك يُقدم إليّ كترابٍ داخل صندوق. لكن لِم يعطونني صندوقًا كل ما يحويه هو التراب؟"

"بعض الناس يحكمون العالم، والبعض الآخر هم العالم. هناك فرق كمي لا كيفي ما بين مليونير أمريكي، أو قيصر، أو نابليون، أو لينين، بينهم وبين القائد الاشتراكي لمدينة صغيرة. وأسفل هؤلاء نقع نحن، غير الملحوظين: الكاتب المسرحي المتهور ويليام شكسبير، المُدرس جون ميلتون، المتسول دانتي آليجييري، فتى التوصيل الذي قام بمشاوير لي في الأمس، الحلاق الذي يخبرني بالنكات، والنادل الذي أظهر لي مودته بتمنيه الخير لي، بعد أن لاحظ أنني شربت نصف زجاجة النبيذ فقط."

" للأسف، أو ربما لحسن الحظ، أدرك أن لي قلبًا قاحلًا. الكلمات تثير اهتمامي أكثر من النحيب الحقيقي لروح إنسان.
لكن أحيانًا أكون مختلفًا. أحيانًا أبكي دموعًا دافئة كأولئك الذين حرموا من أمهاتهم منذ الولادة، والعيون التي تلتهب بدموعها الميتة تحرق قلبي من داخله."

" لندعي أننا أساطير، مهما كان زعمنا خاطئًا، إلى أن نتوقف عن معرفة من نكون. لأننا، في واقع الأمر، أساطير زائفة، ليست لدينا أدنى فكرة عما نكونه في الحقيقة. الطريقة الوحيدة لنكون في وفاقٍ مع الحياة هي أن نختلف مع ذواتنا. السخافة صفة مقدسة.
لنضع النظريات، لنجتهد بصبرٍ وبصدق، لنتصرف عكس ما تمليه علينا نظرياتنا، لنتصرف ونبرر تصرفاتنا بنظريات جديدة تدينها. لنشق طريقًا في الحياة فنمشي فورًا في الطريق المخالف. لنعتنق وضعيات وإيماءات دالة على شيء لسنا عليه ولا نتمنى أن نصبحه، ولا حتى نتمنى أن يعاملنا الناس وفقًا له.

لنشتري الكتب ثم لا نقرؤها، لنذهب إلى الحفلات بغير اكتراث لسماع الموسيقى أو رؤية الحاضرين، لنذهب للتمشية لمسافات طويلة لأننا سئمنا المشي، ولنمضي أيامًا طويلة في الريف لمجرد أنه يصيبنا بالملل."

"روحي نافذة الصبر مع ذاتها، كطفلٍ مزعج يزداد هياجه يومًا بعد يوم ولا يتغير. كل شيء يثير اهتمامي، ولكن لا شيء يستحوذني. أنتبه لكل شيء، بينما أحلم طول الوقت. ألاحظ أدق تعابير وجه من أتحدث إليه، أسجل كل تغير في نبرة نطقه لكلماته، لكنني أسمع دون أن أستمع؛ فأنا أفكر في شيء آخر."

الأحد، 24 أبريل 2022

لماذا يجب عليك أن تقرأ عزازيل: مراجعة بدون حرق، وخواطر

 

الكتاب: عزازيل
الكاتب: يوسف زيدان
لغة القراءة: العربية
صيغة القراءة: كتاب ورقي
التقييم: 4/5

مرحبًا مرة أخرى. في فبراير الماضي انتهيت من قراءة رواية عزازيل ليوسف زيدان. استغرقت بعض الوقت لأستجمع أفكاري حول الرواية وأضعها في صورة تدوينة مترابطة، فها نحن ذا. 
يوسف زيدان هو كاتب مصري مثير للجدل. لم أكن قد قرأت له من قبل، وكنت على دراية بالانتقادات الموجهة إليه، بالادعاءات التي وجهت لكتاباته بوصفها شديدة الإباحية أو حتى مزدرءة للأديان. قررت أن أحكم بنفسي، فاشتريت عزازيل من معرض الكتاب السنوي بمدينة بورسعيد، وقرأت الكتاب في طبعته ذات الحجم المصغر من دار الشروق.

تدور أحداث عزازيل على لسان هيبا، راهب مصري في القرن الخامس الميلادي، يترك قريته في صعيد مصر ويذهب طالبًا للعلم في الإسكندرية، ثم الشام والقدس وغيرها من المناطق. حدثان يتركان جرحًا لا ينسى في حياة هيبا: الأول هو مقتل والده الوثني على يد متطرفين في قريته، والثاني هو مقتل هيباتيا، عالمة الرياضيات السكندرية، على يد متطرفي المسيحية في الإسكندرية. نرى إذن أن ثيمة الصراع الموحدة في الرواية - وفي حياة هيبا - هي الصراع المذهبي والتطرف الديني.

لغة يوسف زيدان جميلة، عذبة، مليئة بالجماليات البديعة. أحببت كثيرًا الصلوات ونصوص المناجاة المتضمنة في النص، وأبكاني تصويره لمشهد قتل هيباتيا. أما عن حكمي فيما يخص أسباب إثارته للجدل، فأنا لم تزعجني كثيرًا المشاهد الجنسية في الرواية - وهي كثيرة -، بصراحة توقعت ما هو أسوأ! المشاهد لم تكن فجة كثيرًا. ربما مطوّلة أكثر من اللازم فقط. على ذكر ذلك، قرأت ذات مرة أن تهمة "خدش الحياء العام" لا تنطبق على الأدب، ببساطة لأن القراءة هي فعل فردي بامتياز، والقارئ ليس بينه وبين نفسه حياء ليخدش. لا أذكر أين قرأت ذلك، ولكني أتفق.

مأخذي الوحيد على تقديم الشخصيات النسائية في الرواية هو أنها قدمت بصورة حسية، وكنت أتمنى لو قدمت بصورة متكاملة. المرأة الوحيدة التي تذكر في الرواية بصفاتها العقلية وليس فقط الجسدية هي هيباتيا. ما عداها من نساء في حياة هيبا كانوا قد كتبوا في صورة حسية شديدة الجنسنة hypersexualized. هذه الظاهرة منتشرة في الأدب المكتوب بأقلام الرجال، حيث تصور الشخصيات النسائية عادةً في قالب جنسي بحت. أوكتافيا مثلًا، شعرتُ بأن دورها في الرواية يتمثل في إغراء هيبا فحسب. لا بأس لدي في المشاهد الشاعرية، وتصويرها كامرأة جميلة فعلًا، ولكني تمنيت لو أن الكاتب أعطى اهتمامًا أكبر بقصتها وتاريخها. كذلك الأمر مع مرتا.

وأخيرًا، لم عليك أن تقرأ الرواية؟ لأننا نعيش الآن عصر تطرف ديني لا يقل خطورة عمّا عاصره بطل الرواية في القرن الخامس. أقرأ الأخبار وتريندات المواقع الاجتماعية كل يوم فيخيفني ما وصلنا إليه من هوس بالدين، أو بصورة معينة منه. أرى نبرة كراهية في حديث الناس عن الأقليات الدينية، ويكسر قلبي أن تكفير الآخر قد صار أمرًا هينًا. أرى شخصًا يسمي نفسه داعية، له الكثير من المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو لا يتبع في "دعواه" المزعومة غير أسلوب البلطجة وازدراء الآخر والتطاول على النساء. أرى مدافعين عن التعدي على حريات الأشخاص المفطرين في رمضان، بعذر أو بغير. أرى هوس بمظاهر الدين الخارجية، وترك تام للجوهر. أرى كل ذلك وأتسائل متى وصلنا إلى هذا الحد؟ إن مصر التي أتذكرها منذ عشر سنين لم تكن هكذا. 
في هذا الصدد قرأت منذ قريب كتاب "محنة الدين والدنيا في مصر"، للمفكر الراحل جلال أمين. في الفصول الأولى للكتاب يستنتج جلال أمين أن ما نراه الآن هو نتيجة لتحول في رؤية المصريين للدين، فبعدما كان جزءًا مهما من الحياة، أصبح الحياة نفسها. ربما أتحدث عنه في تدوينة منفصلة قريبًا.

اقتباسات

"شعرت بقلبي يسيل كماء بين ضلوعي، ثم يصير هواءً".

"كان هذا هو الدرس الأول الذي تعلمته في هذا الدير، وأفادني كثيرًا على نحو خفي. لا ينبغي أن أن نخجل من أمر فرض علينا، مهما كان، ما دمنا لم نقترفه. ساعدني ذلك، كثيرًا، على نسيان ما فعلته بي أمي زمن طفولتي، وعلى تناسي ما فعلتُه، وما لم أفعله، بسبب خوفي وقلة استطاعتي".

"كان يجب علي أن أتكلم بأي شيء، لكن الحروف فرت من طرف لساني. كنت أقول في نفسي، إن جمالها ظالم لمن يعرفه، ظالم لأنه أعمق من أن يحتمل، وأبعد من أن ينال".

"أنا لا أعرف الكثير عنها.. لم أرها من الداخل، ولم أر أي شيء من داخله، أنا أطوف دومًا بظاهر الأشياء ولا أغوص فيها. بل أراني أخشى الغوص في باطني، لكي أعرف حقيقة ذاتي الملتبسة".

السبت، 9 أبريل 2022

ثلاثة أسئلة - كيتلين سيهل



تقول لي أمي:
لما أجد شخصًا يعجبني، 
عليّ أن أسأله ثلاثة أسئلة:
1. ماذا يُخيفك؟
2. هل تحب الكلاب؟
3. ماذا تفعل عندما تمطر؟
تقول لي إن من بين هذه الأسئلة، الأول هو الأهم.
"على المرء أن يخاف من شيء ما. كلنا نخاف. ومن لا يخاف من أي شيء، 
لا يؤمن بأي شيء أيضًا."

قابلتك يوم أحد،
بعد الصلاة في الكنيسة،
ومن نظرة واحدة غادر قلبي جوفي.
في موعدنا الثاني،
سألتك: ماذا يخيفك؟
قلت لي: العناكب، غالبًا. والوحدة. والأطفال الصغار، في السن التي
يتعلمون فيها دفع بعضهم البعض أثناء اللعب. والفضاء الخارجي، نعم، الفضاء اللعين!
سألتك إن كنت تحب الكلاب.
"لديّ ثلاثة".
سألتك ماذا تفعل عندما تمطر السماء.
"أنام غالبًا. وأحيانًا أجلس بقرب النافذة وأراقب سباق قطرات المطر.
أشيّد خيمة بلاستيكية في حديقتي الخلفية لتحتمي بها الحيوانات الضالة وأترك لهم الطعام ومرقدًا مناسبًا للنوم."

ابتسم لي كأنما يعرف،
كأنما أخبرته أمه أيضًا بنفس الشيء.

"ماذا عنك؟"
أنا؟
أنا أخاف من كل شيء.
من ثقب الأوزون،
من جارتي التي لا تبتسم لكلبها قط،
وأخاف بشكل خاص من كل الأسرار التي تحاول الحكومة إخفاؤها عنا.
أحب الكلاب كثيرًا، لا تتصور إلى أي حد.
أنام عندما تُمطر.
أريد أن أقول للجميع أني أحبهم.
أريد أن أعثر على كل الحيوانات الضالة وآخذهم معي للمنزل.
أريد أن أستيقظ تائهة في شعرك،
وأن أصنع لك قهوة رديئة في الصباح،
وأقبّل عنقك،
وأرسمنا في صورة خربشات سخيفة. 
وأريد ألا أسأل أي أحد الأسئلة الثلاثة مجددًا.

- كيتلين سيهل

الاثنين، 4 أبريل 2022

لائحة رغباتي: مراجعة


الكتاب: لائحة رغباتي
الكاتب: جريجوار دولاكور
لغة القراءة: الفرنسية
صيغة القراءة: كتاب ورقي
التقييم: 4/5

مرحبًا ورمضان كريم. انتهيت الشهر الماضي من قراءة "لائحة رغباتي"، للفرنسي الحبيب جريجوار دولاكور. كانت هذه قراءتي الثانية للرواية، هذه المرة بلغتها الأم، بعد أن كانت المرة الأولى منذ ثلاث أو أربع سنوات بالعربية. 

ينتمي جريجوار دولاكور إلى نوع فريد من الروائيين المعاصرين، فرواياته سريعة الإيقاع، page-turners كما يطلق عليها، ولكنها بعيدة كل البعد عن التفاهة والابتذال. قصصه خفيفة الظل مع جرعة لا يستهان بها من التراجيديا أيضًا. بالنسبة لي، هو نسخة أكثر سوداوية قليلًا من فريدريك باكمان، الذي تحدثت عنه كثيرًا على المدونة (وخارجها.. لا أستطيع التوقف عن ترشيحه لكل من أقابل، على الرجل أن يعطيني نسبة من المبيعات). يكسر دولاكور قلبي في منتصف كل رواية، ثم يصلحه مجددًا في نهايتها.  

تدور أحداث الرواية في بلدة فرنسية صغيرة لا يحدث فيها أي شيء. بطلتنا هي "جوسيلين"، امرأة أربعينية عادية، تدير متجرًا للأقمشة وأدوات الخياطة، وتعتني بأبيها الذي يعان من مرض شيخوخة يجعل ذاكرته تدوم لست دقائق. جوسيلين متزوجة ولديها ابن وابنة ناضحين يعيشان بعيدًا عن المنزل. حياة جوسيلين مع زوجها عادية أيضًا، مرا معًا بعدة تحديات من أصعب ما يكون، لكنهما نجحا في الاستمرار معًا بفضل التغافل أو الحظ أو بحكم العادة. وذات يوم، تفوز جوسيلين بالياناصيب بعد أن أقنعتها صديقاتها بشراء تذكرة على سبيل المزاح. تتغير حياة جوسيلين تمامًا، فالمال يعقد كل شيء.

إن سألتك عزيزي القارئ الحكيم، ماذا ستفعل لو فزت بعشرين مليون يورو في الياناصيب؟ أعتقد أن الإجابة على هذا السؤال أعقد مما نظن، فأنا مثلًا لا أعرف ماذا سأفعل بهم. شخصيًا، "لائحة رغباتي" لا تتضمن عددًا كبيرًا من الأشياء التي تُشترى بمال. ربما شقة صغيرة على البحر ستكون لطيفة لكني لا أحتاج عشرين مليون يورو لتحقيق ذلك، ثم أنني لن أجد الوقت الكافي للاعتناء بها. وربما سيارة جيدة أيضًا، لكني أكره السيارات. وكل الكتب التي أريدها، بالإصدارات الخاصة، لكنها أيضًا لا تتطلب عشرين مليون يورو. ثم أنني سأصاب بالذعر لأن منظر الكتب غير المقروءة يوترني. أرجو أن تكون لائحتك هكذا أيضًا. وهكذا هي لائحة جوسيلين: كل ما يرغب المرء في شراؤه حقًا لا يحتاج إلى هذا المبلغ الخيالي من المال. وإن حصل عليه، فماذا بعد؟ المتعة - في رأيي - ليست في الحصول على منزل الأحلام في غمضة عين، بل في ادخار المال شهرًا بعد شهر لشراؤه بعد بضع سنين.

ربما تبدو فكرة "الفلوس مش كل حاجة" ساذجة لك بعض الشيء عزيزي القارئ الواقعي، لكن أعطني فرصة: ليس الأمر متعلقًا بالمال فقط، إنه أسلوب حياتنا كله. هناك خطب ما حدث لمنحنى تطور البشر على مدار القرون فجعل أعظم أحلامنا سيارة فيراري، أو حذاء جديد من أغلى الماركات، أو إقامة في فندق خمس نجوم يبدو كل المقيمين فيه كأسماك التونة المرصوصة في ثلاجات السوبرماركت، بلا شعور، بلا دفء وبلا حياة. 

أعجبتني الرواية بكل بساطتها ورسالتها الكليشيهية. أعجبتني لغة دولاكور وصوره البديعة، وربما أبكتني جوسيلين مرة أو اثنين لكنها أضحكتني طويلًا. أتطلع لقراءة أعمال دولاكور الأحدث، الأقل شهرة: "يومًا ما سيأتي اللون البرتقالي"، و"أول شيء تراه". 

الرواية متوفرة في المكتبات بالترجمة العربية.

اقتباسات

"تقابلنا لأول مرة في المتجر، حيث أرسلته أمه لشراء ثلاثين سنتيمترًا من دانتيل مدينة فالنسيان، دانتيل بانحناءات من خيط طويل منسوج بلا انقطاع، شديد الرقة، بنقشات بألوان مط.. كان تحفة فنية. "بل هي أنت التحفة الفنية"، هكذا قال لي، فاحمرت وجناتي ودق قلبي. ثم ابتسم. يعرف الرجال الكوارث التي يلحقونها بقلوب الفتيات، ونحن المسكينات نحوم ونحوم ونسقط في الفخ، سعيدات لأن أحدهم أخيرًا قد قرر أن ينصبه لنا".

"أظن أن كل شيء يتحرك بسرعة. نتحدث بسرعة، نفكر بسرعة (إن فكرنا!)، نرسل رسائل إلكترونية، رسائل نصية دون إعادة قراءتها، نفقد أناقة الخط المكتوب، نفقد الذوق والأدب، وإحساسنا بالأشياء. لقد رأيت أطفالًا على فيسبوك ينشرون صورًا لهم وهم يتقيأون. لا، أنا لست ضد التقدم، أنا فقط أخشى أنه سوف يعزلنا عن بعضنا البعض".

"هناك أحزان ثقيلة للغاية لدرجة أن المرء يضطر للسماح لها بالرحيل".

"أنا ابنتك يا أبي. أنا ابنتك الوحيدة. طفلتك الوحيدة. نشأت في انتظارك لحين عودتك من العمل أثناء مشاهدة أمي وهي ترسم العالم. كبرت في خوف من أن ألا أكون جميلة في عينيك، ألا أكون ساحرة كأمي، ألا أكون ذكية مثلك. حلمت بأن أرسم وأصمم الفساتين، أن أجعل كل النساء جميلات. حلمت بفارس على حصان أبيض، بقصة حب مطلقة، حلمت بالبراءة، بالفردوس المفقود، بالبحيرات، حلمت بأن لدي جناحين، حلمت بأن يحبني أحدهم لما أنا عليه، لا على سبيل الشفقة".


الجمعة، 1 أبريل 2022

أسهم وقفازات

هذا نص لكاتب اسمه لوكاس ريجاتزي. تعثرت به ذات يوم لا أذكر أين، ترجمته من الإنجليزية ونشرته منذ ثلاث سنوات على المدونة ثم مسحته. أعيد ترجمته الآن وأنشره مرة أخرى، لأنه لم يفارق ذهني كل هذا الوقت: 

"أنت لست على ما يرام، وأنا -أخيرًا- لستُ مضطرة للتظاهر بالاهتمام بأحزانك المستمرة، 
ولكني
سأسطو على البنك الذي أوهمك بأن المال أفيدُ من الكلمات،
سأقطع ثقوبًا في طبقة الأوزون، إن كان هذا سيمنحك يومًا آخر بدون مطر،
سأرافقك إلى المستشفى،
سأنتظر في غرفة تفوح برائحة الكحول المطهر وقفازات اللاتيكس، مترقبًا نتائج الآشعة المقطعية التي تحاول تحديد المرض الذي حيرك
و..
أريد أن أكتب لك قصيدة، كل يوم، إلى أن تنكسر يدي،
لأطمئنك أنك سوف تجد مكانك المناسب،
كل ما في الأمر.. 
هو أن العالم لديه طرق عجيبة في إخفاء أراضيه الخصبة
المناسبة لضرب جذور جسد كجسدك.
وأنا أفتقدك.
مثلما يفتقد السهم هدفه،
ومثلما تصرخ تذكرة قطار قائلة "4:30" في الساعة "4:47"، أنا فقط
أردت أن أخبرك بأن عيد ميلادي يوم الخميس،
ووددت لو قدمت لي شجاعتك هدية، مرة واحدة أخيرة،
لأرى إن كانت ما زالت موجودة.

أرجو ألا تأكلك أشباح ماضينا حيًا.
إن أردت رأيي، سأقول لك إن حجم الكون في الواقع ضعف ما نعتقده،
وأنت الشخص الوحيد الذي جعل تلك الفكرة
أقل تدميرًا."

ترجمة، بتصرف، من النص الأصلي للوكاس ريجاتزي Lucas Regazzi

الخميس، 31 مارس 2022

نجم الشمال

فكرت اليوم في أن لكل منا قاعدة حياتية، "نجم الشمال" الذي يرشده ، مبدأ ومعتقد وقيمة تدور حياته حولها، سواء أدرك ذلك أم لا. وبالطبع، كما هو الحال مع المبادئ جميعًا، يأتي عليها وقت يجب أن تُختبر فيه. منذ بدأت تكوين ما يسمى بالوعي، وبالتحديد منذ بدأت قراءة الأدب الروسي، استوقفني "نجم الشمال" لبعض الكتاب الروس، أذكر منهم جوركي ودوستويفسكي وتشيخوف، في الإيمان بالخير في الإنسان، رغم ما قاسوه جميعًا من أهوال. كان جوركي مثلًا، الذي كانت نشأته في غاية القسوة، يؤمن بأن من يرتكبون الشرور هم جهلة وليسوا أشرارًا. منذ حينها جعلت مبدأي في الحياة هو الإيمان في الخير المتأصل بالبشر. ولا تضحك من سذاجتي عزيزي القارئ المخضرم المتمرس في أمور الحياة، أعرف أنه قد تبدو هذه النظرة ساذجة بل ومثيرة للضحك بالنظر لما يرتكبه الإنسان المعاصر في حق أخيه الإنسان، لكنني كنت في التاسعة عشر عندما احتضنت قناعاتي تلك. 

ثم حدث وتعرضت أنا نفسي للشك في هذا المبدأ منذ بضعة سنوات، حينما اختبرت "الشر" بمعناه الحقيقي لأول مرة، حين نظرت في عينيّ إنسان فرأيت قسوة لم أظنها ممكنة. كفرت حينها في مبدأي. أجبرني شكي هذا على مراجعة قناعاتي، وتوصلت إلى رؤية أكثر واقعية عمّا كنت أعتقده في بداية شبابي: الأصل في البشر هو الخير، ولكن الشر موجود، وحقيقي، وقد يكون مُتعمدًا لا ناشئًا عن جهل. وهذا هو الاختبار الذي يخضع له المبدأ هذا. ولكن الصعوبة كلها تكمن في استمرار الإيمان بالخير، رغم الإحباطات المتكررة، رغم الفشل، وضياع الأمل.

الخميس، 3 مارس 2022

مطار

 عم سامي رجل بسيط. يوصلني إلى المطار كل مرة ويسألني عن فرنسا وألمانيا وحال الناس هناك. "الناس هناك مثلما هم هنا يا عم سامي، لا جديد تحت الشمس"، أقول له كل مرة لكنه لا يصدقني.

عم سامي لم يركب الطائرة قط ويعتقد أنها في سعة اتوبيس سياحي فاخر. يعتقد عم سامي في أشياء عفى عليها الزمن، مثل أفضلية الذكر على الأنثى وأن فيروس الكورونا مُصنع في المعمل وأنه يرتكب إثماً عظيما كلما فاتته صلاة في المسجد. عم سامي رجل بسيط يؤمن بأشياء بسيطة، لكنه طيب، وأنا توقفت عن مجادلة الطيبين.