الاثنين، 2 مايو 2022

مختارات من كتاب اللاطمأنينة

 هذه مقاطع من كتاب اللاطمأنينة للعزيز فيرناندو بيسوا. ترجمتها منذ ثلاثة أعوام من الإنجليزية، وأعيد نشرها الآن بعدما اكتشفت أني لم أرفعها على المدونة. علمًا بأن الكتاب منشور بالفعل بترجمة عربية احترافية، لكني أحببت أن أقدم ترجمتي الخاصة لمقاطعي المفضلة من الكتاب. قراءة ممتعة.


"أنا لا أتذمر بشأن العالم. لا أحتج على الكون. أنا لست متشائمًا. أنا أعاني وأشكو، لكني لا أعرف إن كانت المعاناة هي القاعدة العامة، لا أعرف إن كانت المعاناة سلوك بشري. لِم عليّ أن أهتم بمعرفة ذلك؟" 

"لقد طالبت الحياة بأقل القليل، ومع ذلك حُرمت منه. طالبت بحقلٍ قريب، بشعاعٍ من الشمس، بقليل من الهدوء مصحوبًا بكسرة خبز، بألا يقهرني إدراكي بالوجود، بألا أحتاج شيئًا من الآخرين، وألا يحتاج مني الآخرون شيئًا. حرمت من كل هذا، بالضبط كما يُحرم الشحاذ من عملات الفضة: ليس لأن المارة قساة القلوب، ولكن لأنهم لا يرغبون في فك أزرار معاطفهم."

"إن الشخص الحساس صادق الفكر، إن كان قلقًا بشأن تفشي الشر والظلم في العالم حقًا، سوف يبدأ حملته ضدهما عن طريق القضاء عليهما من أقرب مصدر لهما: من نفسه. وتلك المهمة ستستغرق منه عمره كاملًا."

"البعض يقول أن الحياة بدون أمل مستحيلة، والآخرون يقولون أن الأمل يجعلها فارغة. بالنسبة لي، بما أنني توقفت عن الأمل وعن اليأس، الحياة ببساطة هي صورة خارجية تحتويني، أشاهدها كمسرحية عديمة الحبكة، غرضها فقط تسلية الناظرين. الحياة بالنسبة لي هي رقصة غير منظمة، هي صوت حفحفة أوراق الأشجار في الريح، هي سُحب يمر خلالها ضوء الشمس فيتغير لونه، هي شوارع عتيقة تتفرع في كل اتجاه عبر المدينة."

 "قد نكون على علمٍ بأن العمل الذي نؤجل إكماله دومًا هو سيء. لكن الأسوأ منه هو العمل الذي لا نشرع فيه أبدًا. العمل المكتمل هو على الأقل قد اكتمل. قد يكون رديئًا، لكنه موجود، مثل النبتة البائسة المزروعة في الإصيص الوحيد لجارتي القعيدة. تلك النبتة هي كل سعادتها، وأحيانًا هي كل سعادتي أيضًا. إن ما أكتبه، على كل ما فيه من سوء، قد يوفر لروحٍ جريحة أو حزينة بضعة لحظات من التشاغل عما هو أسوأ. هذا يكفيني، أو ربما لا يكفيني، ولكنه يؤدي غرضًا، وهكذا هو الأمر مع كل نواح الحياة."

"أرى الحياة كفندق على الطريق، وأنا مضطر للبقاء فيه إلى أن تصل العربة القادمة من الهاوية. لا أعرف إلى أين ستأخذني العربة؛ لأنني لا أعرف شيئًا. يمكنني أن أعتبر الفندق سجنًا؛ لأنني مجبرٌ على الانتظار فيه، أو يمكنني أن أعتبره ملتقًا اجتماعيًا؛ لأنني أقابل الآخرين هنا. ولكنني لست جزوعًا ولا اجتماعيًا. أترك أولئك الذين يريدون أن يختلوا بأنفسهم في حجراتهم مستلقين على أسرتهم حيث ينتظرون في أرق، وأترك أولئك الذين يدردشون في الصالات حيث تتردد أصواتهم وأغانيهم لتصل إلى مسمعي هنا في الخارج. أما أنا، فأقف على عتبة الباب، أُمَتّع بصري وسمعي بألوان وأصوات الطبيعة، وأغني بعذوبة - في سري فحسب - أغانٍ رقيقة ألحنها أثناء الانتظار.
يحل الليل علينا جميعًا، وتصل العربة. أستمتع بالنسيم الذي يُمنَح لي والروح التي مُنِحت إياها للاستمتاع به، وأكف عن التساؤل والسعي. إن كان ما أكتبه في سجل المسافرين سوف يقرؤه أحدهم في المستقبل ويستمتع به، فلا بأس. وإن لم يقرأه أحدهم، أو لم يستمتع به، فلا بأس أيضًا."

 "أحمل إدراكي بهزيمتي كمن يحمل راية نصر."

" لم أطمح قط لأن أكون أكثر من شخص حالم. لم أعر انتباهًا لمن حدثوني عن الحياة. لطالما شعرت بالانتماء إلى مكان لا أتواجد فيه وإلى حالة لم أكن عليها. كل ما هو ليس لي، مهما كان حقيرًا، يحمل نوعًا من الشاعرية بالنسبة لي.
الشيء الوحيد الذي أحببته هو اللاشيء على الإطلاق. الشيء الوحيد الذي رغبت فيه هو ما استحال عليّ حتى مجرد تخيله. كل ما طلبته من الحياة هو أن تستمر، لكن دون أن أشعر بها. كل ما طلبته من الحُب هو ألا يكف عن كونه حلمًا بعيدًا."

"يكفينا غموض الكون لأن نفكر فيه؛ لأن رغبتنا في أن نفهمه تنتقص من آدميتنا، بما أنه من الطبيعة الإنسانية أن ندرك استحالة فهمه.
الإيمان يُقدم إليّ كعُلبة محكمة الغلق على طبقٍ غريب الشكل، والمفترض أن أتقبله كما هو دون أن أفتح العلبة. والعلم يُقدم إليّ كسكين على طبق، لأقطع به طيات كتاب صفحاته بيضاء فارغة. والشك يُقدم إليّ كترابٍ داخل صندوق. لكن لِم يعطونني صندوقًا كل ما يحويه هو التراب؟"

"بعض الناس يحكمون العالم، والبعض الآخر هم العالم. هناك فرق كمي لا كيفي ما بين مليونير أمريكي، أو قيصر، أو نابليون، أو لينين، بينهم وبين القائد الاشتراكي لمدينة صغيرة. وأسفل هؤلاء نقع نحن، غير الملحوظين: الكاتب المسرحي المتهور ويليام شكسبير، المُدرس جون ميلتون، المتسول دانتي آليجييري، فتى التوصيل الذي قام بمشاوير لي في الأمس، الحلاق الذي يخبرني بالنكات، والنادل الذي أظهر لي مودته بتمنيه الخير لي، بعد أن لاحظ أنني شربت نصف زجاجة النبيذ فقط."

" للأسف، أو ربما لحسن الحظ، أدرك أن لي قلبًا قاحلًا. الكلمات تثير اهتمامي أكثر من النحيب الحقيقي لروح إنسان.
لكن أحيانًا أكون مختلفًا. أحيانًا أبكي دموعًا دافئة كأولئك الذين حرموا من أمهاتهم منذ الولادة، والعيون التي تلتهب بدموعها الميتة تحرق قلبي من داخله."

" لندعي أننا أساطير، مهما كان زعمنا خاطئًا، إلى أن نتوقف عن معرفة من نكون. لأننا، في واقع الأمر، أساطير زائفة، ليست لدينا أدنى فكرة عما نكونه في الحقيقة. الطريقة الوحيدة لنكون في وفاقٍ مع الحياة هي أن نختلف مع ذواتنا. السخافة صفة مقدسة.
لنضع النظريات، لنجتهد بصبرٍ وبصدق، لنتصرف عكس ما تمليه علينا نظرياتنا، لنتصرف ونبرر تصرفاتنا بنظريات جديدة تدينها. لنشق طريقًا في الحياة فنمشي فورًا في الطريق المخالف. لنعتنق وضعيات وإيماءات دالة على شيء لسنا عليه ولا نتمنى أن نصبحه، ولا حتى نتمنى أن يعاملنا الناس وفقًا له.

لنشتري الكتب ثم لا نقرؤها، لنذهب إلى الحفلات بغير اكتراث لسماع الموسيقى أو رؤية الحاضرين، لنذهب للتمشية لمسافات طويلة لأننا سئمنا المشي، ولنمضي أيامًا طويلة في الريف لمجرد أنه يصيبنا بالملل."

"روحي نافذة الصبر مع ذاتها، كطفلٍ مزعج يزداد هياجه يومًا بعد يوم ولا يتغير. كل شيء يثير اهتمامي، ولكن لا شيء يستحوذني. أنتبه لكل شيء، بينما أحلم طول الوقت. ألاحظ أدق تعابير وجه من أتحدث إليه، أسجل كل تغير في نبرة نطقه لكلماته، لكنني أسمع دون أن أستمع؛ فأنا أفكر في شيء آخر."

الأحد، 24 أبريل 2022

لماذا يجب عليك أن تقرأ عزازيل: مراجعة بدون حرق، وخواطر

 

الكتاب: عزازيل
الكاتب: يوسف زيدان
لغة القراءة: العربية
صيغة القراءة: كتاب ورقي
التقييم: 4/5

مرحبًا مرة أخرى. في فبراير الماضي انتهيت من قراءة رواية عزازيل ليوسف زيدان. استغرقت بعض الوقت لأستجمع أفكاري حول الرواية وأضعها في صورة تدوينة مترابطة، فها نحن ذا. 
يوسف زيدان هو كاتب مصري مثير للجدل. لم أكن قد قرأت له من قبل، وكنت على دراية بالانتقادات الموجهة إليه، بالادعاءات التي وجهت لكتاباته بوصفها شديدة الإباحية أو حتى مزدرءة للأديان. قررت أن أحكم بنفسي، فاشتريت عزازيل من معرض الكتاب السنوي بمدينة بورسعيد، وقرأت الكتاب في طبعته ذات الحجم المصغر من دار الشروق.

تدور أحداث عزازيل على لسان هيبا، راهب مصري في القرن الخامس الميلادي، يترك قريته في صعيد مصر ويذهب طالبًا للعلم في الإسكندرية، ثم الشام والقدس وغيرها من المناطق. حدثان يتركان جرحًا لا ينسى في حياة هيبا: الأول هو مقتل والده الوثني على يد متطرفين في قريته، والثاني هو مقتل هيباتيا، عالمة الرياضيات السكندرية، على يد متطرفي المسيحية في الإسكندرية. نرى إذن أن ثيمة الصراع الموحدة في الرواية - وفي حياة هيبا - هي الصراع المذهبي والتطرف الديني.

لغة يوسف زيدان جميلة، عذبة، مليئة بالجماليات البديعة. أحببت كثيرًا الصلوات ونصوص المناجاة المتضمنة في النص، وأبكاني تصويره لمشهد قتل هيباتيا. أما عن حكمي فيما يخص أسباب إثارته للجدل، فأنا لم تزعجني كثيرًا المشاهد الجنسية في الرواية - وهي كثيرة -، بصراحة توقعت ما هو أسوأ! المشاهد لم تكن فجة كثيرًا. ربما مطوّلة أكثر من اللازم فقط. على ذكر ذلك، قرأت ذات مرة أن تهمة "خدش الحياء العام" لا تنطبق على الأدب، ببساطة لأن القراءة هي فعل فردي بامتياز، والقارئ ليس بينه وبين نفسه حياء ليخدش. لا أذكر أين قرأت ذلك، ولكني أتفق.

مأخذي الوحيد على تقديم الشخصيات النسائية في الرواية هو أنها قدمت بصورة حسية، وكنت أتمنى لو قدمت بصورة متكاملة. المرأة الوحيدة التي تذكر في الرواية بصفاتها العقلية وليس فقط الجسدية هي هيباتيا. ما عداها من نساء في حياة هيبا كانوا قد كتبوا في صورة حسية شديدة الجنسنة hypersexualized. هذه الظاهرة منتشرة في الأدب المكتوب بأقلام الرجال، حيث تصور الشخصيات النسائية عادةً في قالب جنسي بحت. أوكتافيا مثلًا، شعرتُ بأن دورها في الرواية يتمثل في إغراء هيبا فحسب. لا بأس لدي في المشاهد الشاعرية، وتصويرها كامرأة جميلة فعلًا، ولكني تمنيت لو أن الكاتب أعطى اهتمامًا أكبر بقصتها وتاريخها. كذلك الأمر مع مرتا.

وأخيرًا، لم عليك أن تقرأ الرواية؟ لأننا نعيش الآن عصر تطرف ديني لا يقل خطورة عمّا عاصره بطل الرواية في القرن الخامس. أقرأ الأخبار وتريندات المواقع الاجتماعية كل يوم فيخيفني ما وصلنا إليه من هوس بالدين، أو بصورة معينة منه. أرى نبرة كراهية في حديث الناس عن الأقليات الدينية، ويكسر قلبي أن تكفير الآخر قد صار أمرًا هينًا. أرى شخصًا يسمي نفسه داعية، له الكثير من المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو لا يتبع في "دعواه" المزعومة غير أسلوب البلطجة وازدراء الآخر والتطاول على النساء. أرى مدافعين عن التعدي على حريات الأشخاص المفطرين في رمضان، بعذر أو بغير. أرى هوس بمظاهر الدين الخارجية، وترك تام للجوهر. أرى كل ذلك وأتسائل متى وصلنا إلى هذا الحد؟ إن مصر التي أتذكرها منذ عشر سنين لم تكن هكذا. 
في هذا الصدد قرأت منذ قريب كتاب "محنة الدين والدنيا في مصر"، للمفكر الراحل جلال أمين. في الفصول الأولى للكتاب يستنتج جلال أمين أن ما نراه الآن هو نتيجة لتحول في رؤية المصريين للدين، فبعدما كان جزءًا مهما من الحياة، أصبح الحياة نفسها. ربما أتحدث عنه في تدوينة منفصلة قريبًا.

اقتباسات

"شعرت بقلبي يسيل كماء بين ضلوعي، ثم يصير هواءً".

"كان هذا هو الدرس الأول الذي تعلمته في هذا الدير، وأفادني كثيرًا على نحو خفي. لا ينبغي أن أن نخجل من أمر فرض علينا، مهما كان، ما دمنا لم نقترفه. ساعدني ذلك، كثيرًا، على نسيان ما فعلته بي أمي زمن طفولتي، وعلى تناسي ما فعلتُه، وما لم أفعله، بسبب خوفي وقلة استطاعتي".

"كان يجب علي أن أتكلم بأي شيء، لكن الحروف فرت من طرف لساني. كنت أقول في نفسي، إن جمالها ظالم لمن يعرفه، ظالم لأنه أعمق من أن يحتمل، وأبعد من أن ينال".

"أنا لا أعرف الكثير عنها.. لم أرها من الداخل، ولم أر أي شيء من داخله، أنا أطوف دومًا بظاهر الأشياء ولا أغوص فيها. بل أراني أخشى الغوص في باطني، لكي أعرف حقيقة ذاتي الملتبسة".

السبت، 9 أبريل 2022

ثلاثة أسئلة - كيتلين سيهل



تقول لي أمي:
لما أجد شخصًا يعجبني، 
عليّ أن أسأله ثلاثة أسئلة:
1. ماذا يُخيفك؟
2. هل تحب الكلاب؟
3. ماذا تفعل عندما تمطر؟
تقول لي إن من بين هذه الأسئلة، الأول هو الأهم.
"على المرء أن يخاف من شيء ما. كلنا نخاف. ومن لا يخاف من أي شيء، 
لا يؤمن بأي شيء أيضًا."

قابلتك يوم أحد،
بعد الصلاة في الكنيسة،
ومن نظرة واحدة غادر قلبي جوفي.
في موعدنا الثاني،
سألتك: ماذا يخيفك؟
قلت لي: العناكب، غالبًا. والوحدة. والأطفال الصغار، في السن التي
يتعلمون فيها دفع بعضهم البعض أثناء اللعب. والفضاء الخارجي، نعم، الفضاء اللعين!
سألتك إن كنت تحب الكلاب.
"لديّ ثلاثة".
سألتك ماذا تفعل عندما تمطر السماء.
"أنام غالبًا. وأحيانًا أجلس بقرب النافذة وأراقب سباق قطرات المطر.
أشيّد خيمة بلاستيكية في حديقتي الخلفية لتحتمي بها الحيوانات الضالة وأترك لهم الطعام ومرقدًا مناسبًا للنوم."

ابتسم لي كأنما يعرف،
كأنما أخبرته أمه أيضًا بنفس الشيء.

"ماذا عنك؟"
أنا؟
أنا أخاف من كل شيء.
من ثقب الأوزون،
من جارتي التي لا تبتسم لكلبها قط،
وأخاف بشكل خاص من كل الأسرار التي تحاول الحكومة إخفاؤها عنا.
أحب الكلاب كثيرًا، لا تتصور إلى أي حد.
أنام عندما تُمطر.
أريد أن أقول للجميع أني أحبهم.
أريد أن أعثر على كل الحيوانات الضالة وآخذهم معي للمنزل.
أريد أن أستيقظ تائهة في شعرك،
وأن أصنع لك قهوة رديئة في الصباح،
وأقبّل عنقك،
وأرسمنا في صورة خربشات سخيفة. 
وأريد ألا أسأل أي أحد الأسئلة الثلاثة مجددًا.

- كيتلين سيهل

الاثنين، 4 أبريل 2022

لائحة رغباتي: مراجعة


الكتاب: لائحة رغباتي
الكاتب: جريجوار دولاكور
لغة القراءة: الفرنسية
صيغة القراءة: كتاب ورقي
التقييم: 4/5

مرحبًا ورمضان كريم. انتهيت الشهر الماضي من قراءة "لائحة رغباتي"، للفرنسي الحبيب جريجوار دولاكور. كانت هذه قراءتي الثانية للرواية، هذه المرة بلغتها الأم، بعد أن كانت المرة الأولى منذ ثلاث أو أربع سنوات بالعربية. 

ينتمي جريجوار دولاكور إلى نوع فريد من الروائيين المعاصرين، فرواياته سريعة الإيقاع، page-turners كما يطلق عليها، ولكنها بعيدة كل البعد عن التفاهة والابتذال. قصصه خفيفة الظل مع جرعة لا يستهان بها من التراجيديا أيضًا. بالنسبة لي، هو نسخة أكثر سوداوية قليلًا من فريدريك باكمان، الذي تحدثت عنه كثيرًا على المدونة (وخارجها.. لا أستطيع التوقف عن ترشيحه لكل من أقابل، على الرجل أن يعطيني نسبة من المبيعات). يكسر دولاكور قلبي في منتصف كل رواية، ثم يصلحه مجددًا في نهايتها.  

تدور أحداث الرواية في بلدة فرنسية صغيرة لا يحدث فيها أي شيء. بطلتنا هي "جوسيلين"، امرأة أربعينية عادية، تدير متجرًا للأقمشة وأدوات الخياطة، وتعتني بأبيها الذي يعان من مرض شيخوخة يجعل ذاكرته تدوم لست دقائق. جوسيلين متزوجة ولديها ابن وابنة ناضحين يعيشان بعيدًا عن المنزل. حياة جوسيلين مع زوجها عادية أيضًا، مرا معًا بعدة تحديات من أصعب ما يكون، لكنهما نجحا في الاستمرار معًا بفضل التغافل أو الحظ أو بحكم العادة. وذات يوم، تفوز جوسيلين بالياناصيب بعد أن أقنعتها صديقاتها بشراء تذكرة على سبيل المزاح. تتغير حياة جوسيلين تمامًا، فالمال يعقد كل شيء.

إن سألتك عزيزي القارئ الحكيم، ماذا ستفعل لو فزت بعشرين مليون يورو في الياناصيب؟ أعتقد أن الإجابة على هذا السؤال أعقد مما نظن، فأنا مثلًا لا أعرف ماذا سأفعل بهم. شخصيًا، "لائحة رغباتي" لا تتضمن عددًا كبيرًا من الأشياء التي تُشترى بمال. ربما شقة صغيرة على البحر ستكون لطيفة لكني لا أحتاج عشرين مليون يورو لتحقيق ذلك، ثم أنني لن أجد الوقت الكافي للاعتناء بها. وربما سيارة جيدة أيضًا، لكني أكره السيارات. وكل الكتب التي أريدها، بالإصدارات الخاصة، لكنها أيضًا لا تتطلب عشرين مليون يورو. ثم أنني سأصاب بالذعر لأن منظر الكتب غير المقروءة يوترني. أرجو أن تكون لائحتك هكذا أيضًا. وهكذا هي لائحة جوسيلين: كل ما يرغب المرء في شراؤه حقًا لا يحتاج إلى هذا المبلغ الخيالي من المال. وإن حصل عليه، فماذا بعد؟ المتعة - في رأيي - ليست في الحصول على منزل الأحلام في غمضة عين، بل في ادخار المال شهرًا بعد شهر لشراؤه بعد بضع سنين.

ربما تبدو فكرة "الفلوس مش كل حاجة" ساذجة لك بعض الشيء عزيزي القارئ الواقعي، لكن أعطني فرصة: ليس الأمر متعلقًا بالمال فقط، إنه أسلوب حياتنا كله. هناك خطب ما حدث لمنحنى تطور البشر على مدار القرون فجعل أعظم أحلامنا سيارة فيراري، أو حذاء جديد من أغلى الماركات، أو إقامة في فندق خمس نجوم يبدو كل المقيمين فيه كأسماك التونة المرصوصة في ثلاجات السوبرماركت، بلا شعور، بلا دفء وبلا حياة. 

أعجبتني الرواية بكل بساطتها ورسالتها الكليشيهية. أعجبتني لغة دولاكور وصوره البديعة، وربما أبكتني جوسيلين مرة أو اثنين لكنها أضحكتني طويلًا. أتطلع لقراءة أعمال دولاكور الأحدث، الأقل شهرة: "يومًا ما سيأتي اللون البرتقالي"، و"أول شيء تراه". 

الرواية متوفرة في المكتبات بالترجمة العربية.

اقتباسات

"تقابلنا لأول مرة في المتجر، حيث أرسلته أمه لشراء ثلاثين سنتيمترًا من دانتيل مدينة فالنسيان، دانتيل بانحناءات من خيط طويل منسوج بلا انقطاع، شديد الرقة، بنقشات بألوان مط.. كان تحفة فنية. "بل هي أنت التحفة الفنية"، هكذا قال لي، فاحمرت وجناتي ودق قلبي. ثم ابتسم. يعرف الرجال الكوارث التي يلحقونها بقلوب الفتيات، ونحن المسكينات نحوم ونحوم ونسقط في الفخ، سعيدات لأن أحدهم أخيرًا قد قرر أن ينصبه لنا".

"أظن أن كل شيء يتحرك بسرعة. نتحدث بسرعة، نفكر بسرعة (إن فكرنا!)، نرسل رسائل إلكترونية، رسائل نصية دون إعادة قراءتها، نفقد أناقة الخط المكتوب، نفقد الذوق والأدب، وإحساسنا بالأشياء. لقد رأيت أطفالًا على فيسبوك ينشرون صورًا لهم وهم يتقيأون. لا، أنا لست ضد التقدم، أنا فقط أخشى أنه سوف يعزلنا عن بعضنا البعض".

"هناك أحزان ثقيلة للغاية لدرجة أن المرء يضطر للسماح لها بالرحيل".

"أنا ابنتك يا أبي. أنا ابنتك الوحيدة. طفلتك الوحيدة. نشأت في انتظارك لحين عودتك من العمل أثناء مشاهدة أمي وهي ترسم العالم. كبرت في خوف من أن ألا أكون جميلة في عينيك، ألا أكون ساحرة كأمي، ألا أكون ذكية مثلك. حلمت بأن أرسم وأصمم الفساتين، أن أجعل كل النساء جميلات. حلمت بفارس على حصان أبيض، بقصة حب مطلقة، حلمت بالبراءة، بالفردوس المفقود، بالبحيرات، حلمت بأن لدي جناحين، حلمت بأن يحبني أحدهم لما أنا عليه، لا على سبيل الشفقة".


الجمعة، 1 أبريل 2022

أسهم وقفازات

هذا نص لكاتب اسمه لوكاس ريجاتزي. تعثرت به ذات يوم لا أذكر أين، ترجمته من الإنجليزية ونشرته منذ ثلاث سنوات على المدونة ثم مسحته. أعيد ترجمته الآن وأنشره مرة أخرى، لأنه لم يفارق ذهني كل هذا الوقت: 

"أنت لست على ما يرام، وأنا -أخيرًا- لستُ مضطرة للتظاهر بالاهتمام بأحزانك المستمرة، 
ولكني
سأسطو على البنك الذي أوهمك بأن المال أفيدُ من الكلمات،
سأقطع ثقوبًا في طبقة الأوزون، إن كان هذا سيمنحك يومًا آخر بدون مطر،
سأرافقك إلى المستشفى،
سأنتظر في غرفة تفوح برائحة الكحول المطهر وقفازات اللاتيكس، مترقبًا نتائج الآشعة المقطعية التي تحاول تحديد المرض الذي حيرك
و..
أريد أن أكتب لك قصيدة، كل يوم، إلى أن تنكسر يدي،
لأطمئنك أنك سوف تجد مكانك المناسب،
كل ما في الأمر.. 
هو أن العالم لديه طرق عجيبة في إخفاء أراضيه الخصبة
المناسبة لضرب جذور جسد كجسدك.
وأنا أفتقدك.
مثلما يفتقد السهم هدفه،
ومثلما تصرخ تذكرة قطار قائلة "4:30" في الساعة "4:47"، أنا فقط
أردت أن أخبرك بأن عيد ميلادي يوم الخميس،
ووددت لو قدمت لي شجاعتك هدية، مرة واحدة أخيرة،
لأرى إن كانت ما زالت موجودة.

أرجو ألا تأكلك أشباح ماضينا حيًا.
إن أردت رأيي، سأقول لك إن حجم الكون في الواقع ضعف ما نعتقده،
وأنت الشخص الوحيد الذي جعل تلك الفكرة
أقل تدميرًا."

ترجمة، بتصرف، من النص الأصلي للوكاس ريجاتزي Lucas Regazzi

الخميس، 31 مارس 2022

نجم الشمال

فكرت اليوم في أن لكل منا قاعدة حياتية، "نجم الشمال" الذي يرشده ، مبدأ ومعتقد وقيمة تدور حياته حولها، سواء أدرك ذلك أم لا. وبالطبع، كما هو الحال مع المبادئ جميعًا، يأتي عليها وقت يجب أن تُختبر فيه. منذ بدأت تكوين ما يسمى بالوعي، وبالتحديد منذ بدأت قراءة الأدب الروسي، استوقفني "نجم الشمال" لبعض الكتاب الروس، أذكر منهم جوركي ودوستويفسكي وتشيخوف، في الإيمان بالخير في الإنسان، رغم ما قاسوه جميعًا من أهوال. كان جوركي مثلًا، الذي كانت نشأته في غاية القسوة، يؤمن بأن من يرتكبون الشرور هم جهلة وليسوا أشرارًا. منذ حينها جعلت مبدأي في الحياة هو الإيمان في الخير المتأصل بالبشر. ولا تضحك من سذاجتي عزيزي القارئ المخضرم المتمرس في أمور الحياة، أعرف أنه قد تبدو هذه النظرة ساذجة بل ومثيرة للضحك بالنظر لما يرتكبه الإنسان المعاصر في حق أخيه الإنسان، لكنني كنت في التاسعة عشر عندما احتضنت قناعاتي تلك. 

ثم حدث وتعرضت أنا نفسي للشك في هذا المبدأ منذ بضعة سنوات، حينما اختبرت "الشر" بمعناه الحقيقي لأول مرة، حين نظرت في عينيّ إنسان فرأيت قسوة لم أظنها ممكنة. كفرت حينها في مبدأي. أجبرني شكي هذا على مراجعة قناعاتي، وتوصلت إلى رؤية أكثر واقعية عمّا كنت أعتقده في بداية شبابي: الأصل في البشر هو الخير، ولكن الشر موجود، وحقيقي، وقد يكون مُتعمدًا لا ناشئًا عن جهل. وهذا هو الاختبار الذي يخضع له المبدأ هذا. ولكن الصعوبة كلها تكمن في استمرار الإيمان بالخير، رغم الإحباطات المتكررة، رغم الفشل، وضياع الأمل.

الخميس، 3 مارس 2022

مطار

 عم سامي رجل بسيط. يوصلني إلى المطار كل مرة ويسألني عن فرنسا وألمانيا وحال الناس هناك. "الناس هناك مثلما هم هنا يا عم سامي، لا جديد تحت الشمس"، أقول له كل مرة لكنه لا يصدقني.

عم سامي لم يركب الطائرة قط ويعتقد أنها في سعة اتوبيس سياحي فاخر. يعتقد عم سامي في أشياء عفى عليها الزمن، مثل أفضلية الذكر على الأنثى وأن فيروس الكورونا مُصنع في المعمل وأنه يرتكب إثماً عظيما كلما فاتته صلاة في المسجد. عم سامي رجل بسيط يؤمن بأشياء بسيطة، لكنه طيب، وأنا توقفت عن مجادلة الطيبين.

الثلاثاء، 22 فبراير 2022

صخب

 أعرفك، مثلي لا تحب الزحام. يوترك الصوت العالي والحركة المفاجئة وتكرار الكلام واللف والدوران. تجلس منكمشًا على ذاتك، كأنما تحتضن جسدك الذي أنهكه المرض. يتفوه أحدهم بنكتة سخيفة لكنها تضحكك، وتضحكني. علّني ورثت منك حب النكات السخيفة. أرمقك بنظرة في وسط الزحام فتبادلني إياها، بلغة لا يفهمها في الجمع غيرنا. ألاحظ كيف تصبح عيناك الرماديتان داكنتين عندما تحزن، نفس العينين اللتين تلمعان زرقة عندما تضحك. يزداد توترك بازدياد صخب الجمع، فتخرج مبتعدًا، تتناول سيجارة وينكسر قلبي مرة أخرى.

الاثنين، 14 فبراير 2022

حب

 "وإن مت الليلة، أتمنى أن أبعث غدًا في صورة قهوتك الصباحية. بنفس القوة، بنفس الأهمية". - تايلر نوت جريجسون

"عندما أكون معك، نسهر طوال الليل. عندما لا تكون هنا، لا أستطيع النوم. حمدًا لله على الأرقين! وعلى الفرق بينهما." - جلال الدين الرومي

"رغم كل الكتب التي قرأتها في عمرها بأكمله، كان أصعب شيء على الإطلاق هو إيجاد الكلمات المناسبة لقول "أحبك" للشخص الذي أمضت معه أسعد سنوات حياتها." - سارة نيشا آدامز

"أثار باراك فضولي. لم يكن مثل أي رجل واعدته من قبل، وذلك لأنه كان واثقًا من نفسه. كان يظهر المشاعر بأريحية. كان يخبرني بأنني جميلة. كان يشعرني بمشاعر جيدة. بالنسبة لي، كان مثل مخلوق خيالي، شخص غير عادي لدرجة شبه مستحيلة. لم يكن يتحدث عن الأشياء المادية، مثل شراء منزل أو سيارة أو حتى حذاء جديد. كان ينفق أمواله على الكتب، التي كانت بالنسبة له أغراض مقدسة، توفر لعقله الاستقرار والثبات." - ميشيل أوباما

"ضحكت وقلت: الحياة سهلة. ما عنيته هو: الحياة سهلة عندما تكون هنا، وعندما ترحل، ستعود صعبة مجددًا." - ميراندا جولاي

"أتعلم ما يسعدني؟ مكالمات الهاتف غير المتوقعة في وسع اليوم. أو أن تتذكر ما أعجبني في ذلك المطعم الذي زرناه يومًا. أو زهور نصف ذابلة تباع في السوبرماركت، تحضرها لي في وقت التخفيضات. أو رسالة صباحية تقول: استمتعي بيومك وحاولي ألا تحرقي المكان في أحد نوبات غضبك". - سامانتا إربي

"ما نحن عليه وما نصبح عليه يعتمد، بشكل جزئي، على من نحب." - توماس لويس

"الحب هو أن أريدك موجودًا." - فريدريك باكمان

"كلمة "أنا" ما تحلاش إلا بدفا الجماعة. زى لمّا تخبط على باب الحبايب ويسألوا "مين؟" تقول "أنا" ويعرفوك من حسك.." - فؤاد حداد


الأحد، 13 فبراير 2022

وبعد... مراجعة

الكتاب: Et après
الكاتب: جيوم ميسو
لغة القراءة: الفرنسية
صيغة القراءة: كتاب hardcover
التقييم: 3 من 5

انتهيت الشهر الماضي من قراءة "وبعد.."، أحد روايات الكاتب الفرنسي الشهير جدًا في العالم العربي، جيوم ميسو. 
اشتريت الرواية من مكتبتي المفضلة في باريس، Boulinier، الواقعة بالحي الأول. وجدت المكتبة بالصدفة، أثناء تجوالي في باريس بعد قضاء بعض المصالح الحكومية، فبقيت فيها ساعتين أو أكثر، مأخوذة تمامًا بالأسعار المخفضة للكتب المستعملة المعروضة؛ ما لم أراه في مكان آخر غير سور الأزبكية وشارع النبي دانيال! انتقيت الرواية وبضعة كتب أخرى، ولم أدفع يومها أكثر من يورو واحد للكتاب.



صور من زيارتي الأخيرة إلى بولينييه

عودة إلى الرواية: جيوم ميسو معروف برواياته المصنفة تحت تصنيف الأدب الرومانسي وقصص الحب، وهو تصنيف شعبيته كبيرة كما نعلم لكنه يشاع عنه قلة الجودة الأدبية في أغلب الأحيان. لم أقرأ لميسو من قبل، ولست خبيرة تمامًا بتصنيف الأدب الرومانسي، فبدأت الرواية دون الكثير من التوقعات المسبقة.

تدور معظم أحداث الرواية في مدينة نيويورك، وهي ثيمة متكررة في أعمال ميسو الذي عاش فترة في "التفاحة الكبيرة" فأغرم بها. بطل الرواية هو ناثان، محامٍ ناجح وثري، يعيش وحده بعدما انفصلت عنه زوجته. ناثان شخص عملي، يعيش حياة عملية، لا يفكر في الروحانيات والمشاعر وما إلى ذلك من الأشياء غير المادية. تتغير نظرته للحياة فجأة عندما يقابل طبيب عجوز، يخبره بأنه يمكنه التنبؤ بوفاة الناس، ويساعدهم على تصفية حساباتهم الدنيوية ليعبروا بسلام إلى الجانب الآخر. 

لن أحرق الرواية بسرد المزيد من التفاصيل، فالحبكة جيدة والأحداث سريعة فعلًا، فلن أفسدها عليكم. بيت القصيد هو أن الرواية تتحدث عن الموت، الحتمية الوحيدة التي تحكم وجودنا، والتي، بقدرة آدمية غريبة، نتجاهل وجودها تمامًا في وسط أحداث حياتنا اليومية. 

علي الاعتراف بإعجابي بالحبكة، لم أتوقع النهاية إطلاقًا، مع أني عادةً ما أكون جيدة في توقع النهايات في مثل تلك الروايات. أحببت أسلوب السرد السريع، لكن كثير من أحداث الرواية والحوار كانت "كليشيه" أكثر من اللازم، ما أحبطني قليلًا. 

اقتباسات

"بلا شك، هناك تشابه بين الحب والكراهية. يمكننا حتى القول بأن الحب ما هو إلا جنون الكراهية".